دوستويفسكي الكاتب الروسي الذي وضع اسمه بين أسماء عمالقة الأدب العالمي، اشتهر بوصفه وتحليله للنفس البشرية، بمهارة لم نشهد مثلها إلا قليلًا استطاع دوستويفسكي أن يخترق خلجات النفس ويسبر أغوارها؛ وفي رواية “رسائل من تحت الأرض” لم يبتعد كثيرًا عن أسلوبه المعتاد لكنه قدم أسلوبه بشكل حداثي، بل يمكن اعتبار هذه الرواية عمل شبيه بالأعمال السينمائية الحديثة التي تعرض العلم بشكل سوداوي، وسأوضح هذه النقطة في المراجعة بالتفصيل.
كتابة الرسائل من تحت الأرض
تبدأ رواية رسائل من تحت الأرض برجل يعيش تحت الأرض، سئم الحياة وسئمت منه الحياة، لا يحب الناس ولا يطيقه أحد، رجلٌ متناقضٌ إلى أبعد الحدود، فيه الكثير من السلبيات، ومع ذلك يكرر دائمًا أنه يبحث عن الجمال، وربما تبدأ شخصيته هنا في الظهور وهي الشخصية المتناقضة بكل معنى الكلمة، يظهر عكس ما يبطن، يقرر أن يقوم بفعل معين ثم يذهب ليفعل عكسه، يفكر ويحلل ثم يقوم بشيء لا يفرضه عليه عقله وضميره.
مثقف أدنى من الحشرة
مع المقدمة السلبية التي بدأ بها دوستويفسكي رواية رسائل من تحت الأرض، ومع الإشكالات المطروحة، يقدم الكاتب بطل روايته فجأةً على أنه إنسان مثقف، مثقف القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من ثقافته وكثرة قراءته وبحثه، إلا أنه لا يعرف من هو، ويقول بشكل واضح أنه لم يستطع أن يكون حقودًا أو طيب القلب، لم يستطع أن يكون بطلًا أو حشرة، كل ما يفعله هو الجلوس في زاوية غرفته أسفل الأرض، جلوسًا مهينًا لا يعرف أحد وجوده، لكن يجد البطل عزاءً لهذا وهو أنه إنسانٌ ذكي جدًا، ووحده الأحمق من يستطيع أن يكون شيئًا.
وقتُ تعرية الحقيقة
“ترى ما الذي يستطيع أن يتحدث به الإنسان السوي ويحس بأعظم المتعة؟ الجواب: أن يتحدث عن نفسه”.
#مقتبس
بعد أربعين عامًا يقرر هذا الرجل البائس والحزين كتابة مذكراته، يرى أن هذه هي الطريقة الوحيدة حتى يعرف كل شيء، يريد أن يعترف بعد هذا العمر الطويل أمام نفسه، لا يهمه العالم ولا يهتم أن يقرأ أحد مذكراته، وهنا يبدأ كاتب الرسائل بكتابة مواقف حدثت خلال حياته، بعضها استمر لدقائق لكن ظل بها لسنوات، أبسط المواقف التي تحدث في حياتنا وتمر بعد ذلك مرور الكرام، لا تمر مع هذا المثقف، بل يحملها معه فوق ظهره، وفي طقسًا أشبه بطقوس الاعتراف في الكنائس تبدأ رحلتنا.
أن تكون إنسانًا
“كل أعمال الإنسان تتألف في الحقيقة من شيء واحد فقط هو إثباته لنفسه في كل لحظة أنه إنسان وليس مفتاح بيانو”.
#مقتبس
بعد فتح عالم البيولوجي تشارلز داروين باب التطور بدأت مركزية الإنسان في السقوط، وسرعان ما تطورت العلوم الكمية، وأصبحنا نعبر عن كل شيء بالأرقام، الطبيعة التي كانت تغضب وتفرح وتنتقم من الإنسان أصبحت مجرد أرقام وظواهر يتم رصدها والتنبؤ بها، هدأت الأرواح في العالم وصعدت الآلة والحتميات.
ينطلق دوستويفسكي من هذه النقطة بوصفها الجدار الصلب، وهذا الجدار هو قوانين الطبيعة، أرقام ومعادلات ستحاصر الإنسان، وبدلًا من انتظار المستقبل، والشعور بالألم والحزن، سيذهب الإنسان إلى العلماء ليعرف من بالمعادلات تفاصيل حياته، يحاول الكاتب نقد هذه النظرة المادية المحضة للوصول إلى ما يميز الإنسان عن الآلة، ما يميز أقاربنا عن البيانو والكراسي.
2+2=4
هكذا يرى المثقف أن حرية الإنسان في المستقبل مهددة بهذا الجدار الصلب الذي يجب أن نحاربه حتى نصل للإنسان، يغضب الكاتب من المسألة السابقة ويقول: “يا للسموات أيها السادة: أي شكل من أشكال حرية الإرادة يبقى حين يؤول الأمر إلى التنسيق والحصر والرياضيات”، قفزات علمية كبيرة لكنها قد تحولنا لأرقام ندرسها في المدارس.
الجزء الثاني
رواية رسائل من تحت الأرض مقسمة إلى جزئين الجزء الأول عن صفات الإنسان المتناقض المريض الذي يرفض الذهاب للأطباء بالرغم من احترامه للعلم، وعلى الرغم أيضًا من إيمانه بالخرافات؛ أما الجزء الثاني فيتحدث المثقف عن مواقف حقيقية حدثت معه في حياته الماضية، وتعتبر هذه المواقف هي السبب للاعترافات التي كتبها في الجزء الأول.
على عكس الكثير من الروايات لم يعرض دوستويفسكي القصة التي يكتبها ويحللها أثناء الكتابة، بل قام بالتحليل بشكل دقيق أولًا، ثم بدأ بقص القصص التي جعلته يحلل هذه التحليلات على الرغم من أن التحليل لم يتوقف في الجزء الثاني بشكل كامل، تدور القصص في الجزء الثاني حول زملائه القدامى أيام الدراسة وعن زيارته لهم بعد كبره وعن التفاصيل الغريبة التي تحدث معهم، كما يتحدث عن ليزا فتاة الهوى التي يحبها ويعذبها وينعتها بألفاظٍ وصفاتٍ تقتل الإنسان وروحه فيه، ويتحدث أيضًا عن مديره في العمل، وخادمه والمشاكل التي تحدث بسبب راتبه الشهري وتكبره.
كلنا هذا الشخص
لا يتمنى أي أحد بعد قراءة رواية رسائل من تحت الأرض أن يشارك بطلها أي صفة وذلك بسبب سوء هذا الرجل وسوء تصرفاته، لكن يخبرنا دوستويفسكي أيضًا أننا جميعًا هذا الرجل، هذا الرجل هو انعكاس للمجتمع الحديث، المجتمع الذي فقد صلته بالحياة الحقيقة، بل المجتمع الذي أصبح لا يعرف ما هي الحياة الحقيقية، ويختم الرجل كلامه بقول: “فالواقع إنني أبدو أكثر حياةً منكم”.
مميزات وعيوب الرواية
الرواية غير متوقعة من الكاتب وذلك حيث تتمتع ببعض التفاصيل التي تعتبر مشاكل معاصرة، فالحديث عن العلوم والجبرية الطبيعية وما هو الإنسان في وجود القوانين يشبه بشكل كبير حلقة في مسلسل “Black Mirror”؛ أسلوب الكتاب لم يكن ممتازًا، بل تعتبر الصياغة الأدبية والبلاغية عادية ومقبولة فقط، كثرة الاعترافات والضمائر والجمل القصيرة أدت لبعض التشويش، ولا أغالي إذا قلت إن بعض الصياغات كانت مزعجة أثناء القراءة.
لم تتعامل الشخصية مع بعض المشاكل بشكل جدي على سبيل المثال إذا كانت العلوم ستذهب بنا إلى ما وراء الإنسان الحالي فبالتأكيد لن نجد الحل بالوقوف ضد العلوم لأنها ببساطة تخبرنا حقيقة العالم؛ يمكننا معرفة الحقيقة العلمية ثم نتعامل مع هذه النتائج بنسق فلسفية تتناسب معنا فلا نفقد العلم أو الإنسانية، لكن يجب الإشارة أيضًا أنه قد أوضح أننا يجب أن نوافق على النتائج العلمية حتى يثبت لنا عكسها.
لم يذكر الكاتب اسمًا للبطل وهذه لافتة جيدة، لكن لا أعتقد أن هذا البطل يمكن أن يكون حقيقةً من الأساس، وذلك بسبب كثرة الصفات السيئة والمتناقضة بشكل كبير، ويمكن أن يكون دوستويفسكي قد ذهب لهذا الطريق حتى يثير حفيظة القارئ من هذه الصفات فلا يفعلها من كثرة تأففه منها، وهذا أسلوب أنطوان تشيخوف خصوصًا في قصة “البدين والنحيف” كان يكرر بعض الألفاظ حتى يلاحظ القارئ فعلًا معينًا فيبتعد عنه.
أسلوب الكاتب
يتميز الكاتب في رواية رسائل من تحت الأرض بأسلوب نادر لا يخلو من الغرابة، التناقضات الواضحة في الرواية لها وقع غريب خصوصًا عندما يعترف بها الراوي ويعرف أنه فعل هذه الأفعال وهو يعرف أسباب نقصها وسلبيتها، وعلى الرغم من الاعترافات والندم والأحداث القائمة نجد البطل لا ينتظر طويلًا حتى يلقي نكتة أو أمر مضحك، وأكثر الأحيان لا تثير هذه الأشياء الضحك لكنه يرفض أن يحذفها، على أي حال لن يقرأ هذه الأشياء أحدًا غيره، وبالطبع نلاحظ أسلوب دوستويفسكي الذي يقرأ شخصية البطل وكأنها كتابٌ مفتوح أمامه ينقل منه.
في النهاية تعتبر رواية رسائل من تحت الأرض جيدة للغاية وترشيح جيد للبدء في أعمال دوستويفسكي، لا تحتاج الرواية الكثير من المجهود لكنها تحتاج تركيزًا بسيطًا لربط التفاصيل جيدًا وفهمها، والجيد أيضًا أن الرواية قصيرة فتقع في 200 صفحة فقط بالمقدمة وهذه هي النسخة الصادرة عن المركز الثقافي العربي، كما تتوفر هذه الرواية بترجمة سامي الدروبي والذي يعتبر أفضل مترجم عربي للكاتب الروسي الشهير دوستويفسكي.
محمد إبراهيم جاد الله - أراجيك