عسكرة المجتمع هي تفريغ المجتمع من القيم المدنية والثقافية والاجتماعية، وإغراقه بصبغة من الاستبداد وفرض القيم العسكرية من خلال القوة، بتحويله لميلشيات عسكرية.
والجدير بالذكر أن مقال اليوم مبني على مجموعة من المصادر الموثوقة، وعلى رأسها كتاب عسكرة المجتمع: التأثيرات السياسية والأمنية، للكاتب زيد حازم الزلزلي.
اليوم سوف نناقش عسكرة المجتمع بشيء من التفصيل، مع التزام الحيادية بقدر الإمكان.
جذور العسكرة
إن ظاهرة عسكرة المجتمعات ظاهرة متجذرة بالمجتمع الإنساني، وقديمة قدم نشوء الدول؛ فقديمًا وُجدت دول ذات طابع عسكري وأكبر مثال عليها أسبرطة اليونانية، والتي تميزت تركيبتها السياسية بنزعة عسكرية بحتة، وأصبغتها على المجتمع الأسبارطي. وقد كانت قدوة لممالك أخرى عاصرتها أو جاءت بعدها. لكن في الحقيقة أول من طبع المجتمع بطابع عسكري، كان البابليون، وتحديدًا أشهر ملوكهم:
أبو القوانين حمورابي.
حيث كان أول من فرض ما يعرف بالتجنيد الإجباري على الناس، وكانت دائمًا -وما زالت- المجتمعات التي تتسم بطابع المنظومة العسكرية (أي إذا كان الحاكم عسكريًا أو جاء من خلفية عسكرية أو نظام الحكم يحكمه مجلس عسكري)، منحدرة من ذات الطبيعة العسكرية، إلى ما يعرف بتقديس الحاكم وصبغ نفحة من الألوهية عليه.
لقد استمرت ظاهرة عسكرة المجتمعات في كثير من دول العالم حتى الآن، وانتشرت هذه الظاهرة بشكل كبير لدى المجتمعات المتخلفة. وذلك لأنَّ المؤسسات العسكرية في هذه المجتمعات هي الأقوى وهي القادرة على القبض على السلطة بيد من حديد، وبالتالي تملي ثقافتها على المجتمع. وهي تتميز بأنماط حكم وسلوكيات اجتماعية وثقافة أحادية الجانب، أي أنها لا تتمتع بالطابع المدني والديمقراطي وقبول الآخر. كما أن العسكرة كإيدولوجيا؛ هي فرض النموذج العسكري على كل مؤسسات الدولة المدنية. كالتعليم والصحة والإعلام وجميع المؤسسات ذات الطابع الإنتاجي، وحتى المؤسسات الدينية.
وهي شكل من أشكال الاستعباد التراتبي، التي تؤدي في النتيجة لإبطال فاعلية المؤسسات وانحدار مستواها وتوقف الإنتاج وتحول الدولة لدولة ريعية فاشلة. أي دولة ينعدم فيها الإنتاج هي خاسرة اقتصاديًا. كما أنه في الدول ذات الطابع العسكري تعطى صلاحيات واسعة لأجهزة الأمن والشرطة السرية، تتخطى فيها الدستور والقانون، وتنتهك فيها الحريات. في الحقيقة تبدو هذه الدولة قوية ومتماسكة وصلبة من ناحية الشكل، إلا أنها من الناحية الاجتماعية هشة وضعيفة وغير متماسكة، وتحمل في داخلها بذور الانقسام والتفتت.
أنماط عسكرة المجتمع
- العسكرة نتيجة الحروب الأهلية
والتي تأتي من خلال انتشار السلاح بشكل واسع بين المدنيين، وتحول هذا المجتمع لمجرد ميليشيات وفصائل وعصابات تتناحر فيما بينها. وترتكب فيها الفظائع، ويتشبع أفراد المجتمع بثقافة العنف وإلغاء الآخر، وتتشكل حياة أفراد المجتمع من خلال العنف واستخدام السلاح. كما يصبح منطق القوة هو السائد في هذه المجتمعات، مما يجعل أفراد المجتمع صانعين لدوامة من الفوضى ليس لها نهاية.
كما أن انقسام المجتمع إلى ولاءات لأشخاص هم أمراء حرب وقادة ميليشيات، يؤدي بالضرورة لتشظي هذه المجتمعات وتفككها ويصبح من الصعوبة بمكان إعادة توحيدها ضمن رؤية واحدة بعد أن تضع هذ الحرب أوزارها. وهذا ما عانته جميع المجتمعات التي مرت بحروب أهلية ما زالت جروحها الاجتماعية موجودة، وعلى ما يبدو هي بحاجة لعقود من السلام والتنمية وإعادة البناء، لنسيان ويلات الحرب ومآسيها.
من الناحية الاقتصادية لمجتمعات الحروب الأهلية، فنتيجةً لتردي الأوضاع الاقتصادية وتوقف عجلة الإنتاج وغياب الخدمات، بالإضافة للضغط الاقتصادي والمادي على الأفراد -أي انتشار البطالة والفقر- يؤدي هذا الوضع إلى انكفاء كل فرد إلى الدائرة الاجتماعية الأصغر من الدولة أي الطائفة أو القبيلة أو العائلة.
فيصبح الانتماء إلى ميليشيا أو فصيل أو طائفة هي الفرصة الوحيدة للنجاة وتأمين لقمة العيش من خلال الرواتب التي تقدمها هذه الفصائل والميليشيات. بالإضافة للسرقات وعمليات النهب التي يقوم بها هؤلاء الذين يصبحون فيما بعد من أثرياء الحرب. وبالتالي فإن المهنة الوحيدة التي قد ترفع صاحبها إلى مصاف المتنفذين هي القدرة على القتل وإدارة المعارك بكفاءة، أي بالمحصلة يتحول الفرد لمجرد قاتل مأجور.
وبالتالي إن عسكرة المجتمع بكل مظاهرها وتبعاتها تمثل أزمة ذات تركيبة معقدة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وفي أحيان كثيرة تكون نتيجة تركيبة بنيوية في المجتمع، أي أن هذا المجتمع قد فشل لسبب ما ببناء سلطة مدنية وعدالة اجتماعية بهامش واسع من حرية التعبير وإبداء الرأي وقبول الآخر. كما أن أخطر ما تصنعه العسكرة بالفرد هو القضاء على فكرة الانتماء للوطن والدولة، وتجاوز حالة الانتماءات لما قبل الدولة، أي الانتماءات العشائرية والطائفية والطبقية.
وهناك أمثلة كثيرة على عسكرة المجتمع كالصومال، ولبنان خلال الحرب الأهلية، والعراق حاليًا وغيرها الكثير من الحالات في عالمنا.
- عسكرة المجتمع الإسرائيلي
وهو نموذج آخر عن عسكرة المجتمع، فعند قيام إسرائيل واحتلالها للأراضي العربية الفلسطينية وطرد السكان الأصليين منها، تبلورت فكرة هذه الدولة حول أنَّ هناك صراع أبدي بين الإسرائيليين والعرب. وقد عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على تغذية المجتمع الصهيوني بهذه الفكرة، ملغيةً فكرة التعايش مع العرب والفلسطينيين، وقد تمّ تحويل المجتمع الإسرائيلي لمجرد جيش احتياط.
أما من الناحية السياسية فتعتبر فكرة الأمن القومي هي الفكرة الأساسية التي تتمحور حولها السياسات الخارجية والداخلية الإسرائيلية. وتحولت هذه الفكرة إلى إيديولوجيا متكاملة الأركان، استطاعت من خلالها السلطات السياسية والعسكرية الهيمنة بشكل كامل على المجتمع والدولة. وانعكست هذه الهيمنة على المؤسسات المدنية بكافة اختصاصاتها.
سميت هذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي بالعسكرة المدنية، ومن خلال عسكرة الدولة المدنية، تستطيع الحكومات المتعاقبة استخدام القوة العسكرية المفرطة كحل وحيد للصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي تعزيز فكرة انعدام بدائل للتوجه العسكري.
لقد شكلت حالة الطوارئ المستمرة أساسًا دستوريًّا وذلك منذ قيام دولة الكيان الصهيوني المحتل عام 1948 وحتى الآن. بحيث يحق للدولة الإسرائيلية إلغاء كافة الحقوق المدنية وحقوق الإنسان في حالات الطوارئ. مع العلم أن الدستور الإسرائيلي يَعتبر أنَّ الدولة هي في حالة طوارئ وتهديد دائم، وعليه وجب سَن القوانين والتشريعات التي تلغي الحقوق المدنية. وإن دلَّ ذلك على شيء؛ فيدل على الخلط بين الأمن والسياسة، وبين القضاء والقانون.
أما الناحية الاقتصادية، يتمحور الاقتصاد الإسرائيلي حول فكرة الإنتاج الأمني، من خلال الاعتماد على الذات، بتطوير البرامج والصناعات العسكرية. بالإضافة لتصدير المعدات المصنعة إسرائيليًا، والعمل على تحويل الاقتصاد الإسرائيلي لاقتصاد منتج لمعدات عسكرية.
وبالنتيجة نجد أن عسكرة الدولة إنما تعبر عن أزمة وجودية تمر بها الدولة والمجتمع، وهي عائق حقيقي أمام إقامة نهضة حضارية مجتمعية، تعمل على الانفتاح والتواصل مع الآخرين، وبناء دولة مزدهرة اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا. فالعسكرة هي عائق حقيقي أمام ما يعرف بدولة الرفاه وحقوق المواطن.
ليال شيخ حيدر - أراجيك