لم يكن لأديبين عربيين ألمعيين كمحمود محمد شاكر ونجيب محفوظ -رحمهما الله، وطيب ثراهما!- أن يغفلا عن تأمل رحلة الإنسان منذ خُلق إلى وقتهما؛ فليس أجدر منها بتفكيرهما وتعبيرهما. وقد فعلا ذلك بين خمسينيّات القرن الميلادي العشرين وستينيّاته، حين بلغ السيل الزُّبى تفاؤلا وتشاؤما!
أما شاكر فجعل في ذلك قصيدته "اعصِفي يا رياح"، ذات الأربعة ومئة البيت، وأما محفوظ فجعل فيه روايته "أولاد حارتنا"، ذات الثلاث والتسعين وخمسمئة الصفحة- أي بكل بيت شاكري ست صفحات محفوظية، وما كان أقلها!
نعم؛ فبعدما مرا جميعا بالإنسان على مراحل رحلته المتتابعة المتفاوتة علما وجهلا وهدى وضلالا وأمنا وخوفا وسعدا وتعسا، اختلفا فيما أفضيا به إليه؛ فأما محفوظ فأقره في مقام العلم، وأغناه به، تنبيها على حرية العقل ووجوب التسليم له بعد ما حصّله. وأما شاكر فزلزله في مزلق الوهم، وحذره منه، تنبيها على نقصان العقل ووجوب التأدب في مقام الملكوت الهائل!
ماذا فعل عرفة الآن، يا نجيب!
صار عرفات، يا أستاذ محمود!
فليت الرياح كانت ريحا!
إذن لدالت دولة الإنسان من قبل أن تبلغ قرارها!
بل لأدالت بعضًا من بعضٍ!
ولا يفتأ الخالفون يبدؤون من حيث بدأ السالفون!
نعم؛ بدءَ من اتعظوا فتأدبوا!
فلتعصف الريح إذن ما شاءت، يا أستاذ محمود!
"اعصِفي يا رياحُ من حيثما شئتِ وعَفّي الطُّلولَ والآثارا
وانسِفي يا رياحُ غايةَ هذا الليل حتى يَحُور ليلا سِرارا"