✿ قصة من عالم البرزخ ✿
♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء الثاني
..واستمر الكون في تغيراته حتى شملت الأجرام السماوية، إذ خسف القمر، وطغت ظلمته على نوره، وجمع الشمس والقمر حتى تلاطما فيما بينهما، فاضمحل ضياء الشمس وتلاشی وتلاشت بعده(1)، وانكدرت النجوم، وراحت الكواكب والمجرات ترتطم فيما بينها بعد أن اختل نظام حركتها، واضطربت قوانينها التي كانت حاكمة عليها، فتراها تلتهب ثم تتناثر في الفضاء.
أما السماء والتي هي مثل السقف المحفوظ والمحكم يحيط بهذا الكون، لم تسلم من ذلك التغيير أيضا، إذ عم فيها دخان عظيم مما زاد على الظلمة ظلمة، فلا شمس تشع، ولا قمر ينیر، ولا نجوم براقة، كل شيء ظلام في ظلام!
وفي هذا الوسط من الظلمة المعتمة انطوت السماء كطي السجل للكتب(2)، فأخفت ما في داخلها بين طيات صفحاتها، ولعلها عادت إلى خزائن الغيب مع ما فيها من أسرار الكون ومخلوقاته.
سكنت الحركات، وخمدت الأصوات، وخلت من سكانها الأرض والسموات، وساد صمت وهدوء مطلق في أرجاء الكون، إذ بقيت السموات خالية من أملاكها، والأرض من إنسها وجنها وطيرها وهوامها، وبقي الملك لله الواحد القهار، المتصرف في الملك والملكوت، وكأن ربي يسأل خلقه: ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ… )
لا أحد يجيب، بل لا أحد غير الله ينطق حتى يجيب ويقول: ( ..لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ).
طال سبات الخلائق وسكونها، والله أعلم كم كانت مدته، حتى حان ذلك اليوم الذي سمعنا فيه صوت نفخة الصور الثانية وصيحته، إنه اسرافیل عاد بعد أن أحياه الله لينادي في خلقه:
أن قوموا ليوم الحشر والحساب، ولكن أي صيحة كانت! بل أي نداء هذا الذي يحيي الأموات من أولهم إلى آخرهم، ويخرجهم من الأرض قياما ينظرون! ومن الأجداث مسرعين، يرتطم بعضهم ببعض، أبصارهم خاشعة، وقلوبهم خائفة مضطربة، كأنهم جراد منتشر(3) إلى ربهم ينسلون.
كل واحد من الخلق كان يحس أن الصيحة والنداء قريب جدا منه، بل قد تكون في داخله، فهي كما قال تعالى: ( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ).
حقا انه منظر مرعب ومهول أن تخرج كل الأجيال من البشر منذ خلق آدم وحتى قيام الساعة في وقت ومشهد واحد! والكل يسوق بنفسه مسرعا مضطربا، والبعض زاحفاً… إلى ساحة المحشر والحساب.
أسرعت مع هذا الجمع العظيم من الخلق، وبين الحين والآخر أتعثر، فأقع ذليلا على وجهي، وأحس بأقدام الخلق فوقي، ولكن سرعان ما أنهض قائما بمساعدة مخلوق كان يرافقني منذ خروجي من قبري، ولشدة الزحام والاضطراب لم أتعرف عليه، بل ما تمكنت من رؤيته بصورة تسمح لي بمعرفته.
كنت أرى الكثير ممن بعثوا ونشروا معي
وقد تأججت في أفواههم نار، وهم يتعثرون، وتحت الأقدام يسحقون. هم كالأقزام في صغرهم، وقد لا ترى لهم أثر حتى يمر كل هذا الجمع العظيم فوقهم(4). والعجيب أن البعض منهم كلما أراد القيام أركسه مخلوق قبيح كان يرافقه ليلقيه على الأرض مرة أخرى! فقلت: بسم الله، هذا أول مشهد من مشاهد الذلة والعذاب.
وسط هذه الأوضاع والغبرة، وبين وجوه الخلق المتفاوتة، رأيت شخصا يشع منه النور، ولا تبدو عليه آثار التعب والإرهاق، سوی الدهشة التي كانت تظهر في ملامح وجهه.
نظرت إليه فبهرني جماله وهيبته، وعجبت منه إذ لم يكن يسرع في مشيه، وفي الوقت نفسه لا يتخلف عن غيره! سألته ونفسي تلهث من عناء المسير، وغبرة الطريق:
ــ هل تعلم ما الذي حدث؟ وإلى أي شيء ساق بنا؟
تمعن في وجهي ثم أجاب:
ــ أرى في صورتك ملامح الإيمان والتقوى، ولكني أيضا أرى نورك ضعيف لا
يكاد يضيء الطريق إليك.
نظر إلى الجمع العظيم، ثم عاد ليقول:
ــ إن الله بعثنا بعد أن أماتنا موتة البرزخ، ونحن الآن في يوم البعث الذي وعدنا به لتساق إلى الحشر والحساب، ثم لتجزى كل نفس بما كسبت، ولا يظلم ربك أحدا.
قلت:
ــ سبحان الله! ما أقصر لبثنا في عالم الدنيا والبرزخ، وكأننا لم نقض فيهما إلا ساعة أو أقل الساعة(5).
قال:
ــ يبدو لك ذلك، والواقع أنها لحظات، بل أقل من لحظات لو قيست مع حياة الأبد التي أمامنا، ولكنها في نفسها كانت كافية لأن ينال الإنسان فيها كماله الذي أراده الله له في عالم الأبد.
تذكرت آيات من القرآن تشير إلى الموقف الذي نحن فيه، فسألته:
ــ أنت من أهل العلم والإيمان، أليس كذلك؟
قال:
ــ وكيف علمت هذا؟
قلت:
ــ لا أعلم أنت من أي أمة وأي جيل، ولكن الله تعالى أخبرنا في كتابنا القرآن بقوله: ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ۖ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )، فعلمت عندما أخبرتني بيوم البعث، وبحقيقة مقدار اللبث في عالم الدنيا والبرزخ أنك من الذين أوتوا العلم والإيمان.
توقفت عن الكلام، ثم نظرت إليه متسائلا:
ــ قل لي بالله عليك من أي أمة أنت؟
من اي امة المتكلم مع سعيد وماذا سيحدث لسعيد من احداث.. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء الثالث ان شاءالله تعالى