لا يدلّ الفعل في اللغة على الحدث وحده، وإنّما هو يدلّ على الحدث وعلى الحالة أيضا، وذلك من نحو قولنا “ضرب” و”حزن”. والفعل في حالة التصريف يختلف عمّا هو عليه في حالة الحياد، والحياد هو أن يكون الفعل خارج دائرة التصريف. وفي العربيّة ومن باب التمثيل نقول “ضرَبَ” مثلا، فهذ الفعل ومن باب التأمّل، دالّ في ذات الوقت على الحدث وعلى الحياد، مثلما هو دالّ على أنّه مسند إلى ضمير الغائب المفرد المذكّر. ومن باب المقارنة لو نظرنا في لغات أخرى كالفرنسيّة والأنجليزيّة والإيطاليّة مثلا فإننا نجد أفعالا في الفرنسيّة من نحو marcher (مشى) أو courir (جرى)، وفي الأنجليزية أمثلة من نحو to eat (أكل)، وفي الإيطاليّة أمثلة من نحو cantare (غنّى)، وما شابه ذلك. وفي كلّ هذه الأمثلة، مثلما تمكن ملاحظته، توجد قرائن دالّة على الفعل المحايد، وهذه القرائن هي اللاحقة /er/ أو /ir/ في الفرنسيّة، وهي السابقة /to/ في الأنجليزيّة، و/are/ في الإيطاليّة. وأمّا القرينة الدالة على الحياد في العربيّة فهي قرينة صفريّة، نستشفّها من بنية الفعل نفسه.
ومن باب الملاحظة فإننا لا نستفيد من بنية الفعل في العربيّة المحايدة أو التصريف وحدهما، وإنّما نستفيد بالإضافة إلى هذا جملة من المعلومات الأخرى وهي:
بنية الفعل، بالنظر إلى الحروف الأصول والحركات والسكنات، والحروف الزائدة إن وجدت.
وزن الفعل، باعتبارها تمثيلا.
الزمن الماضي، زمن وقوع الحدث.
والبناء للمعلوم، وذلك في مقابلة البناء للمجهول.
وبناء على هذا فإن الفعل “ضرب” مثلا هو فعل محايد، بالنظر إلى كونه وحدة معجميّة لها موقع داخل المعجم أو القاموس، وهو فعل متصرّف بالضرورة، بمعنى أنّ لا بدّ لكلّ فعل من فاعل، وهو في النهاية جملة، وذلك بالنظر إلى كونه قائما على إسناد. ومن هنا يجيء الالتباس بشأن الفعل، ولا بدّ والحالة هذه من تجريد بنية الفعل لمعرفة جملة خصائصه.
وفي تعريف سيبويه للفعل، مثلما جاء في كتابه: “وأمّا الفعل فأمثلة أخذت من أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع”[1]، نلاحظ أنّ سيبويه لا يشير لا إلى الصيغة، أي الماضي والمضارع والأمر، ولا يشير إلى الزمن، أي الماضي والحاضر والمستقبل، وإنّما هو يشير إلى ثلاث خصائص مهمّة تدخل في طبيعة الفعل نفسه، وهذه الخصائص هي:
الخصيصة البنيويّة، باعتبار أنّ الأفعال أمثلة أي أبنية. وهذا الأمر يساعد سيبويه بما لا يدعو إلى الشكّ على التصنيف والتبويب، وذلك بأن جعل الفعل الثلاثيّ المجرّد مثلا لا يخرج عن نطاق /فَعَلَ/ أو /فَعِلَ/ أو /فَعُلَ/، وهو يُرجع كلّ الأفعال الثلاثيّة المجرّدة في اللغة العربيّة إلى هذه الأبنية، سواء كانت صحيحة أو مضاعفة أو معتلّة.
الخصيصة الاشتقاقيّة، وذلك بردّ الفعل إلى اسم الحدث، أي إلى المصدر، وأنّ المصدر هو الأصل في الاشتقاق، ولعلّ سيبويه أبرز هذه الخصيصة لما كان لها من أهميّة في الصراع الدائر بين البصريّين والكوفيّين، في حديثهم عن الأصل في الاشتقاق، وإلّا لكان في غنى عنها.
خصيصة الحدث، وقد تكون هذه الخصيصة الأهمّ في فهمنا لطبيعة الفعل، ذلك أن الحدث يُبنى لما تمّ وانقضى، وأمثلة “ذهب” و”سمِع” و”حُمِدَ” التي أوردها سيبويه دالّة على هذا الانقضاء. ويُبنى الحدث أيضا لما لم يقع، وهو دالّ على الأمر وعلى صيغة الطلب، لأنّ الفعل لا يتحقّق إن إلّا بعد الطلب. وهو دالّ في الأخير على بناء ما لم ينقطع، وهو كائن إذا أخبرت به، وهو الفعل المضارع. إذن إنّ الحدث الذي ينظر إليه سيبويه من خلال الفعل، لا ينظر إليه من خلال الزمن، أي الماضي والحال والاستقبال، ولا ينظر إليه من خلال صيغ الفعل أي الماضي والمضارع والأمر، وإنّما هو ينظر إليه من باب تحقّق الفعل أو عدم تحقّقه، أي بالنظر إلى انقضاء الحدث أو عدم انقضائه. وانقضاء الحدث هو ما نعبّر عنه بصيغة الماضي أو بصيغ أخرى، من نحو “لم” مع المضارع، وعدم انقضاء الحدث قد يحيل على المستقبل، ولا يتحقّق المستقبل بواسطة المضارع المجرّد، وإنّما يتحقق بأشياء أخرى أيضا من نحو “السين” و”سوف”، مثلما يحيل على عدم الانقطاع والاستمراريّة في الحدث، وقد نعبّر عنه بالمضارع أو بواسطة أدوات أخرى، من نحو “كان” الناقصة وبعض أخواتها.
إنّ تعريف الفعل عند سيبوية على ما رأينا، يعدّ على غاية من الدقّة والأهميّة، وإن كان لا يخلو من غموض، ولعلّ هذا الغموض من شأنه أن يؤكّد على الإرهاصات الأولى في فهم الفعل وكلّ مكوّنات اللغة العربيّة، ولعلّ هذا ما يجعلنا نفهم الاهتمام الواضح من قبل سيبويه بشأن الفعل وتعريفه، وإهماله للاسم الذي قال فيه “فالاسم رجل وفرس”[2]، وذلك من باب التمثيل.
هذه قراءة في تعريف الفعل تخرجنا من دائرة الفهم المحدود المتعلّق بالصيغ، ومن دائرة الخلط الشائع بين الصيغة والزمان.