ما استوقفنا من مُثُل رفع المعطوف بالحرف (بل) على خبر (ليس) و(ما) الحجازية المحمولة عليها إنما هو وجه من أحد وجهي العطف بها، أما الوجه الآخر فيكون المعطوف بها تابعًا في إعرابه لما عُطف عليه، فيعطف على المرفوع بالرفع، نحو: جاءَ زيدٌ بل عمْرٌو، وعلى المنصوب بالنصب، نحو: رأيت زيدًا بل عمْرًا، وعلى المجرور بالجر، نحو: مررت بزيدٍ بل عمرٍو، وهذا شأن عطف المفردات، هذا شأنها في الواجب أي الإثبات، وكذلك في النفي، قال أبو حيان «ومن النحويين من جعل (بل) بعد النفي على وجهين:
أحدهما: ما ذكرته من أن (بل) توجب لما بعدها ما نفي عما قبلها، فلا يكون ما بعدها منصوبًا.
الثاني: أن تكون (بل) بعد النفي على حالها بعد الواجب لزوال الغلط، فهذه ينتصب الخبر بعدها لأن التقدير: بل ما هو قاعدًا.
وقال بعض شيوخنا: "الذي يظهر أنك متى أردت هذا المعنى جئت بالثاني بدلًا" انتهى. يعني أن ذكر الخبر أولًا كان على جهة الغلط، فأتيت بالثاني لتستدرك الغلط أن قصدك أولًا إنما كان للاسم الثاني، فيصير نظير: مررت برجلٍ بل امرأةٍ، قصدت أن تقول: مررت بامرأةٍ، فسبق لسانك غلطًا إلى قولك، رجلٍ، فأضربت عن ذلك، وقلت: بل امرأةٍ»(1).
وعلى هذا المعنى الثاني وهو إرادة الغلط فالاستدراك أجاز المبرد النصب بعد (بل)، قال ابن مالك "ووافق المبرد في هذا الحكم [الرفع بعد بل]، وأجاز مع ذلك أن تكون (بل) ناقلة حكم النهي والنفي لما بعدها، وهو خلاف الواقع في كلام العرب"(2). وتابع ابن مالك في هذا من جاء بعده، قال ابن هشام «وأجاز المبرد كونها [بل] ناقلة معنى النفي والنهي لما بعدها؛ فيجوز على قوله: "ما زيد قائمًا بل قاعدًا"؛ على معنى بل ما هو قاعدًا، ومذهب الجمهور: أنها لا تفيد نقل حكم ما قبلها لما بعدها إلا بعد الإيجاب والأمر؛ نحو: "قام زيدٌ بل عمرٌو"، و"اضرب زيدًا بل عمرًا"»(3).
ولا أحسب المبرد، إن صحت نسبة القول له(4)، أراد هذا التقدير بل أراد العدول عن لفظ إلى غيره، ولعل نظير هذا ما جاء في الكتاب، قال سيبويه «ومما يُختار فيه النصب لنصب الأوّل قوله: ما لقيتُ زيدًا ولكن عمرًا مررتُ به، وما رأيتُ زيدًا بل خالدًا لقيتُ أباه، تُجرِيه على قولك: لقيت زيدًا وعمرًا لم أَلْقَهُ، يَكون الآخِرُ في أنه يُدْخِلُه في الفعل بمنزلة هذا حيث لم يُدخِله، لأن بل ولكن لا تَعملانِ شيئًا وتشركانِ الآخِرَ مع الأوّل، لأنّهما كالواو وثُمَّ والفاء، فأَجْرهما مُجراهنّ فيما كان النصبُ فيه الوجهَ وفيما جاز فيه الرفعُ»(5).
وما يقصده سيبويه من الإشراك الأثرُ اللفظي لا المعنوي؛ فالمنصوب يشارك المنصوب بالنصب وإن كان أولهما مطّرحًا وآخرهما مرادًا، قال سيبويه «ومنه: مررت: برجلٍ راكعٍ بل ساجدٍ، إما غلِط فاستدرك، وإما نسِيَ فذكر»(6). وقال «ومنه أيضًا: ما مررت برجل صالحٍ بل طالحٍ، وما مررتُ برجلٍ كَريمٍ بل لئيمٍ، أَبدلتَ الصفةَ الآخِرَةَ من الصفة الأولى وأَشركَتْ بينهما بَلْ في الإِجراءِ على المنعوت. وكذلك: مررتُ برجل صالحٍ بل طالحٍ، ولكنه يجيء على النَّسيان أو الغَلطِ، فيَتداركُ كلامَه؛ لأنه ابتدأ بواجب»(7).
وأثار السيرافي إشكالًا حول قول سيبويه «ما مررت برجلٍ صالحٍ بل طالحٍ، وما مررتُ برجلٍ كَريمٍ بل لئيمٍ، أَبدلتَ الصفةَ الآخِرَةَ من الصفة الأولى»(8)، قال «قال أبو سعيد: قد استعمله سيبويه في هذا الموضع وقبله بأسطر، لفظ البدل على غير ما اعتاده النحويون، لأن البدل في كلامهم هو: أن يقدر سقوط ما قبله، ويقام الثاني مقامه، ولو قدرنا هذا في هذا الموضع لما صح الكلام، لأنه قال في الأول: ما مررت برجل كريمٍ بل لئيمٍ، ولو أطرحنا كريما، وجعلنا مكانه لئيم، صار تقديره: ما مررت برجل لئيمٍ، وليس هذا بمراد، فيكون معنى الكلام أنك أبدلت الإيجاب من النفي على ما يصح من اللفظ والمعنى، فيصير التقدير: ما مررت برجل كريم بل مررت برجل لئيم»(9). وأحسب أنّ ما أراده سيبويه نفي الطلاح لا الصلاح، ونفي اللؤم لا الكرم. ولذلك صرّح بعض النحويين بصحة قول المبرد، قال الأشموني «وأجاز المبرد كون (بل) ناقلة النفي إلى ما بعدها، فعليه يجوز: ما زيدٌ قائمًا بل قاعدًا، بالنصب، أي: بل ما هو قاعدًا، أفاده اللقاني، وفيه إشكال؛ لأن نقل النفي إلى ما بعد العاطف صير ما قبله غير منفي، فما وجه نصبه؟ وجوابه أن النفي إنما انتقل بعد تمام العمل فالنصب متجه»(10). والمعنى أن القيام منفيّ ولذا نصب؛ ولكنه نفي على جهة الغلط فعدل عنه إلى نفي القعود؛ ولذلك وجب نصبه.
والخلاصة أنك تقول (ليس زيد قائمًا بل قاعدٌ، ما زيد قائمًا بل قاعدٌ) إن أردت نفي اتصاف زيد بالقيام وإثبات اتصافه بالقعود، وتقول (ليس زيد قائمًا بل قاعدًا، ما زيد قائمًا بل قاعدًا) إن كنت تريد نفي القعود عنه ابتداءًا؛ ولكنك غلطت فنفيت قيامه وأنت غير مريد لنفيه ولا إثباته.