لقد شاع أن قسّم النحاة الكلم إلى ثلاثة أقسام، هي الاسم والفعل والحرف، ولا يكاد يختلف جميعهم في هذا. ولا غرابة في أنّ هذا التقسيم يعود إلى بداية تأسيس النحو، ولا شكّ في أنّ سيبويه في كتابه هو أوّل من أتى على هذا التقسيم، وهو يقول في هذا المضمار “فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل”[1].
والظاهر أن هذا التقسيم قائم على خصائص معنويّة وأخرى تركيبيّة. وتتمثّل الخصائص المعنويّة في المعنى العام المستفاد من كلّ قسم من هذه الأقسام. والمعنى الأساسيّ المقصود في الاسم هو المعنى الذاتيّ، من نحو كلمتي “بحر” أو “جبل”، أو من نحو كلمتي “جمال” و”دلال”. وفي مقابل المعنى الذاتيّ الموجود في الأسماء نجد معنى الحدث الراسخ في الأفعال. وأمّا بشأن الحرف فهو ما اختلف عن الاسم والفعل، أو ما كان معناه متعلّقا بغيره. وأمّا الخصيصة الثانية، أي الخصيصة التركيبيّة فتتمثّل أساسا في الإسناد، باعتبار أن الاسم يجيء مسندا إليه أو مسندا، في حين أن الفعل لا يجيء إلا مسندا، في الوقت الذي لا يجيء فيه الحرف لا مسندا ولا مسندا إليه. ولو أردنا أن نمثل لهذه الخصائص بعلامات الإيجاب والسلب لأمكننا الوصول إلى ما يلي:
الاسم = (+ معنى، + إسناد)
الفعل = (+ معنى حدث، + إسناد)
الحرف = (+ معنى في غيره، – إسناد).
بهذا استطاع النحاة أن يميّزوا بين الاسم والفعل والحرف، وهم لم يخرجوا، مثلما يمكن ملاحظته، عن خصيصتين أساسيتين، إحداهما ترجع إلى المعنى، والأخرى ترجع إلى الإسناد أو التركيب.
بيد أنّ السؤال يظلّ قائما، لمَ قسّم النحاة الكلم إلى هذه الأقسام الثلاثة ليس أكثر من ذلك أو أقلّ، علما أن الكلم في العربيّة كثير، وأنّ خصيصتي المعنى والتركيب موجودتان ومتداخلتان في كلّ الوحدات التي نجدها في العربيّة؟ ولا يخفى أنّ تحت الاسم تندرج أسماء متنوّعة مثل الظرف والضمير والعَلم والعدد وأسماء الاستفهام والأسماء الموصولة وغيرها، وهي في الحقيقة أسماء مختلفة في أبنيتها، وفي إعرابها وبنائها، ومختلفة في تصاريفها، وقد تدخل الواحد منها علامات من علامات الأسماء، ولا تدخلها كلّ العلامات، وذلك من نحو التعريف والتنكير، أو الإفراد والتثنية والجمع، أو الجرّ، أو قبول الإضافة والوصف وغيرها، ما يجعل الاختلاف بين هذه الأسماء شديدا، وما يجعل النحاة عاجزين على أن يأتوا بالتعريف الجامع المانع للاسم.
وعندما ننظر في أهمّ خصائص الأسماء التي حصرناه في المعنى والإسناد أساسا، نجد بعض الأسماء من نحو ”عند” و”حيث” مثلا هي أقرب إلى الحروف في بنائها، وعدم اشتمالها على معنى ذاتيّ صريح وواضح، وفي عدم صلاحيتها في أن تجيء مسندا أو مسندا إليه، مثلما لا تصلح أن تكون فاعلة أو موصوفة.
وإذا كانت الأسماء مختلفة إلى هذا الحدّ فلمَ حشرها النحاة كلّها في باب واحد؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ أن ننظر في مبدأ التصنيف في حدّ ذاته، الذي التزم به النحاة وعلى رأسهم سيبويه. والتصنيف هو ترتيب المسائل اللغوية المختلفة، وذلك بالنظر إلى جملة الخصائص المشتركة التي تجمع بينها. والاختلاف في هذا المضمار واضح بين الأسماء والأفعال، مثلما هو واضح بين الأسماء والحروف، وواضح بين الأفعال والحروف. ومن الملاحظ أنّ دائرة هذه الخصائص المشتركة قد تتّسع، وقد تضيق. ولا يخفى أنّ النحّاة ارتأوا، وبصورة لا تخفى، أن تتّسع دائرة أقسام الكلم، لتتضمّن أشياء قد تكون مختلفة ومتباينة، وذلك حتّى تكون الأبواب أضيق وأقلّ، وتكون أقرب إلى الاختصار والإيجاز. وكان بالإمكان أن يكون باب الاسم مثلما أشرنا منذ حين أبوابا عدّة، مثلما كان بالإمكان أن يكون باب الفعل كذلك أيضا.
ومن خلال كلّ هذا يظلّ السؤال قائما، لمَ جمع النحاة تحت الباب الواحد مسائل عديدة مختلفة؟ والجواب، وقد يبدو بديهيّا، إنّ هذا يرجع في تصوّرنا إلى مبدأ التقسيم نفسه، ذلك أنه إذا كثرت التقسيمات كثرت التفاصيل، وقد يغدو من الصعب جمع شتات الظاهرة، وكلّما قلّت التقسيمات، بدت المسائل أكثر وضوحا، وأسهل في التناول وحسن التمثّل. ولعلّ التقسيم إلى ثنائيات أو إلى ثلاثيات يكون أسهل في الحفظ، وأقرب إلى الفهم والاستيعاب. وهو مبدأ عام لا نجده في مسائل النحو وحدها، وإنّما نجده في الأصول والفلسفة والعلوم عامّة. وهذا التضييق في التقسيم والتبويب، يجعل المسائل العلميّة قائمة على أصول وفروع، ومعرفة الأصول مقدّمة في العلوم. ويغدو بهذا التصوّر باب الأسماء أو باب الأفعال أو باب الحروف بابا قائما بذاته، ولكنّ داخله، نجد تفريعات كثيرة، من نحو الحديث عن الأسماء المعربة والأسماء المبنيّة، والأسماء المشتقّة وغير المشتقّة، والأسماء الدالّة على ذات والدالّة على معنى، والأسماء المتصرّفة وغير المتصرّفة. ومثلما نجد في باب الأفعال الأفعال الصحيحة والمعتلّة، والأفعال المتصرّفة والجامدة، والمجرّدة والمزيدة، وقس على ذلك.
إنّ هذا التصوّر التصنيفي الذي أرسى دعائمه النحاة، وعلى رأسهم سيبويه، يعتبر منهجا ملائما جدّا لا في أبعاده النظريّة فحسب، وإنّما في أبعاده الإجرائية أيضا، وذلك فيما يتعلّق بتحصيل العلوم أو اكتسابها، وكأنّ العلم قائم على مستويات أو أصول وفروع، وبالتالي لا يتمّ الانتقال من مستوى إلى آخر إلّا بعد امتلاك المستوى الأول للتمكّن من الارتقاء إلى المستوى الثاني أو الموالي، وهذا يساعد على اكتساب الملكة في صنف من أصناف العلوم بطبيعة الحال. والصعوبة حقّا ليست في التدرّج من مستوى إلى آخر عند المتلقّي أو المتعلّم، وإنّما هي في جمع شتات الظاهرة الواحدة، وذلك من حيث الملاحظة والمعالجة أو التوصيف والتصنيف، في باب واحد، من قبل العالم أو المنظّر.