بعد قرن من وفاة لبيد آخر شعراء المعلقات (ظ¦ظ¦ظ،م)، نشأ أبو العتاهية (ظ§ظ¥ظ¢م-ظ¨ظ£ظ¥م)، فاشتغل بالدنيا ما شاء الله، ثم اشتغل عنها؛ فجعل شعره كله في زهده فيها وتزهيد الناس، بعدما كان في تعلقه بها وتعليق الناس. ثم تعرّض لهم بكل سبيل، وتتبعهم، واستمع إليهم، وتأمل أحوالهم؛ فحصل له من ذلك فهم ورأي ونقد، وتطلع إلى تثقيفهم بأرجوزته التي سماها "ذات الأمثال"، واستصفى لها خلاصة تفننه، واستهلها بحمد الله -سبحانه، وتعالى!-:
"الحمدُ لله على تَقْديرهِ وكُلِّ ما صَرَّف مِن أُمورهِ
الحمدُ لله بحُسن صُنعهِ شكرًا على إعطائه ومنعهِ
يَخِير للعبد وإن لم يَشكرُهْ ويَستر الجَهْلَ على من يُظهرُهْ
خَوَّفَ مَن يجهل مِن عقابهِ وأطمعَ العاملَ في ثوابهِ
وأَنْجَدَ الحُجّةَ بالإرسالِ إليهمُ في الأَزمُن الخوالي
نَستعصم اللهَ فخيرُ عاصمِ قد يُسعِد المظلومَ ظلمُ الظالمِ
فَضَلَنَا بالعقل والتدبيرِ وعِلْمِ ما يأتي من الأمورِ
يا خيرَ من يُدعى لدى الشدائدِ ومَن له الحمدُ مع المَحامدِ
أنت إلهي وبك التوفيقُ والوَعدُ يُبدي نورَه التحقيقُ".
-في الديوان "فَضَّلَنَا"، ولا يستقيم-
ثم قال:
"حَسْبُك مما تبتغيه القوتُ ما أكثر القوتَ لمن يموتُ"،
وهو أول ما كنا جميعا نحفظ من هذه الأرجوزة، التي توالت بالحكم أبياتها من الرجز المشطَّر المزدوِج، ثم توالت، ثُمَّتَ انهمرت، حتى لم يعد أحد يعرف لها عددا؛ فقد ذكر الأصفهاني أن لأبي العتاهية فيها أربعة آلاف مثل، ولم يورد هو نفسه منها في كتابه "الأغاني"، غير ثلاثة وعشرين بيتا! وليس في ديوان أبي العتاهية بنشرة دار صادر غير سبعة وأربعين بيتا وشطر بيت. بل إن الدكتور شكري فيصل الذي حقق ديوان أبي العتاهية أدق تحقيق وأحسنه وأنفعه، لم توصله شدة اجتهاده إلى أكثر من 320 بيتا، منها 19 بيتا ليست غير 19 شطرًا؛ كلُّ شطر منها بقية بيتٍ قبله، شَذَّ مُثَلَّثًا من بين سائر أبياتها المُزْدَوِجة -وأبو العتاهية هو الذي سخر مرة ممن أراد إلزامه برُسوم علم العروض قائلا: أنا أكبر من العروض!- فليس ما اجتمع للدكتور شكري فيصل إذن غير 301 بيت، أي 15% فقط من الأرجوزة!
نعم؛ فلقد جرى أبو العتاهية في أرجوزته ذات الأمثال (الحكم)، على عقد كل مثل (حكمة) بشطر بيت، وإذا اعتبرنا ما ذكر الأصفهاني من أن له فيها أربعة آلاف مثل، ترجح أنها ألفا بيت، وهو ما لم تبلغه قبلها قط قصيدة شاعر عربي، ولا أرجوزة راجز!