ليسَ النص الديني رهنَ إشارة الخاص والعام. ولا يستوي في فهمه والعلم به والاستنباط منه العالمُ والمتعلمُ والقاصي والدّاني والأدنى منه، فقد نزل القرآن الكريمُ بلسان العرب، ومَن غابَت عنه دلالات الألفاظ على عصر التنزيل فقد طاش سهمُ تفسيره وأبعدَ النّجْعةَ، فلا بدّ من علوم الآلَة قبل ولوج باب التفسير، ولا بدّ من العلم بشروط المقام وظروف الخطاب وهي أسباب النزول : لتنزيل النص على الوقائع وعلى المَقيس على الوقائع مما جدّ مع الزّمن، ومَن كان ذهنُه خالياً ووفاضُه من العلم والأدوات خاوياً فلا حظَّ له من فهم ولا إفهام ولا بيان ولا تبيين، فإنّ للنصّ منزِّلاً ذا مقاصدَ، وإنّ للنصّ مُخاطَباً، وفق تلك المقاصد، وإذا قال القائلُ: كل يفهمُ تلك المقاصدَ كما يشاء أو يفهَمُ منها ما شاءَ. قلنا له: كلاّ، إنّ السّنّةَ الصحيحةَ قد بيّنَت المقاصدَ الشرعيّةَ التي ينبغي أن يُنسَجَ على منوالها التفسيرُ الصحيحُ، أو الاجتهاد الموافقُ للتفسير الصحيح، وإنّ في السيرة النبويّةِ والشمائل المحمّديّة تطبيقاً نموذجياً وتفسيراً عملياً يُحدّد مقاصدَ النص ولا يتركه في أيدي العابثينَ وأهواء الجاهلين أصحاب المذاهب المُغالية من الرافضة وغلاة الشيعة والبهائية والقاديانية وغيرِها. ليس النص القرآني كسائر النصوص وليس صاحبُ النص كأصحاب النصوص الأخرى وليسَت المقاصدُ كالمقاصد. ولو كان أمرُ الانفتاح المُطلَق للنص القرآني كما يزعُم أصحابُ التفكيك أو الانفتاح أو التناص لفشلَت الأمّةُ الإسلاميّةُ منذ أمدٍ بعيدٍ، ولَذهَبَ ريحُها ولَذابَت ورحَلَت واضمحلّت، ولكنّ الله سُبْحانَه تكفّل بالحفظ: «إنّا نحنُ نزّلْنا الذّكرَ وإنّا له لَحافظون» . وأدواتُ الفهم والبيان والتحليل والتفسير والاستنباط ، كلُّ أولئك من بابِ الحفظ .
أما مسألة الخِصْبِ الذي يتحدثونَ عنه في النّصّ القُرآني فيُغريهم فيحملونَ النص على ما يتبادرُ إلى أذهانهم ونفوسهم من وجوه فينبغي التوقف عنده وتبيينه وعدم إطلاق الحكم بلا بيان، فإن كثيرا من الباحثين أغرته بعض مفاهيم بارت وكريستيفا وديريدا وظنّ أنّها أي المفاهيم تصدق على النص القرآني وهذا ظن بعيد لأنك وإن صدقَ حكمُك على النص الكريم بأنه خصبٌ فإنّ لهذا الحكم الجماليّ حدوداً وقيوداً تداوليةً عمليّةً تأبى على المفسر أن يهيمَ على وجهه فيظنّ فيه ما يشاء ويُسقطَ عليه من أحوال نفسه مثلما يُمكنُ أن يُفعَلَ بقصيدة امرئ القيس أو أبي الطّيب أو رواية دويتويفسكي أو شعر إيليوت أو السياب؛ فتلك الأعمال الأدبية نسبيةٌ تاريخيةٌ ذات نسقٍ وتجربة معينة والقارئ لها يتفاعل بنسقه النسبي وتجربته مع نسقها النسبي وتجربتها، فيصح القولُ بتوافُق التجربتيْن أو النسقين ويصح الحكم بالخصب غير المنتهي ويصح الإسقاطُ والظلالُ الدلالية والشعورية ، وهذا أمرٌ لا يصدقُ مطلقاً على النص القرآني إلاّ بما تسمح به المقاصد المذكورةُ آنفاً وشروط التعامل مع النص، ولقد وقعَ كثيرٌ من المؤولة الجُدد في مزالقَ عديدةٍ عندما أسقطوا قراءات تاريخانية ونفسانية وأنثروبولوجية وانفعالية ووجودية على النص القرآنية فانتهوا إلى أحكام جائرة ألحَقَت النص الكريمَ بأبسط النصوص الأدبية ففقد بنظرياتهم نسقيتَه وشرعيتَه وخصوصيتَه
والله أعلَمُ