بيــــــــان
اعتذر عن التكليف
أتوجّهُ – ابتداءً – بالشكر الجزيل، للسادة أعضاء مجلس أمناء شبكة الإعلام العراقي الموقّرين لمنحي الثقة لتسنّم منصب "رئيس شبكة الإعلام العراقي"، والشكرُ المُضاعَف لكلّ الأصدقاء والمُحبّين والمُهنّئين، ممّن يعتقدون أن بإمكاني العمل على إنجازٍ يغيّر من واقع شبكة الإعلام العراقي، لكنّ الأمر أصعب من هذا بكثير، وليس بهذه البساطة.
تمّ تأسيسُ شبكة الإعلام العراقي بعد 2003، وكان يُراد لها أن تكون شبيهةً بتجربة الـBBC، وأن تكون تلك المؤسسة البعيدة عن السلطة الحكومية، كونها تُموَّل من المال العام، وأُريدَ لها أن تكون صوتاً للشعب العراقي، مُعبّرةً عنه، لكنَّ ما جرى منذ لحظة التغيير هو مخالفة الأسس التي شُكّلت "الشبكة" بموجبها، إذ لم تتمتّع أبداً بالاستقلالية الكاملة، وعمدت كلّ الحكومات على السيطرة عليها، وتوظيفها من ناحية الخطاب، لتكون صوتاً حكومياً لا شعبياً، وشيئاً فشيئاً استطاعت القوى السياسية والحكومات السيطرة عليها، في أكبر عمليّة مصادرة لخطاب الشعب، وصار صوتُ الناس ضعيفاً ولا يقتربُ صوتُ المؤسسة منهم، وفقدت موضوعيّتها ومصداقيتها في تناول الشأن العام.
كنتُ دائماً ما أقول إن إمكانيات الشبكة الماديّة والبشرية إمكانيات عملاقة، ويتواجد فيها أحسنُ وأكفأ الصحفيين في العراق والمنطقة العربيّة ربّما، لكن الخطاب دائماً ما يُختطف من خلال القيادات السياسية، وأنتجت، بالتحوّل المتكرر عبر عقدٍ ونصف، إداراتٍ ضعيفةً جداً، وهذه المعادلة لم تُكسر حتى اللحظة، للأسف الشديد.
لم يكن هناك أبداً قرارٌ سياسيٌ أو حكوميٌ تتوافق عليه الطبقة السياسية من أجل ترك الشبكة لاستقلاليتها، الأمر الذي انعكس على أدائها كما يعرف العراقيون، ولذلك أنا أشك جملةً وتفصيلاً، في أن أي محاولة لإصلاح خطاب الشبكة ستكون معركة "دون كيشوت" ضدّ طواحين الهواء، حرباً لإضاعة الجهد والوقت والسمعة بلا طائل ولا مُنجز.
شخصياً: أعتبرُ المهمةَ وطنيةً خالصةً بامتياز، لكنني متيقنٌ من أن الأحزابَ السياسيةَ وأذرعَها داخل الشبكة، وحتى الحكومة، لا تريد بأيّ حال من الأحوال أن تترك الشبكة لاستقلاليتها.
على المستوى الشخصيّ، لا يُمكن القبول بعدم استطاعة أيّ إدارة أن تتولّى مسؤولية مكان ولا يُمكن أن تغيّر مدير قسم على سبيل المثال، لأن أخطبوط المحاصصة موجود في كلّ مفاصل الشبكة، كما في المؤسسات الأخرى، وستكون جهود الإصلاح عبثية وضائعة.
يجب أن يكون هناك قرارٌ شجاعٌ بترك الشبكة كي تنمو كأي كائن سليم الجسم والروح، وهذا قرار لم يُتخذ بعد، وما تزال الحكومات والأحزاب تعمل ضمن سياقات ديكتاتوريّة لأنها بجوهرها غير مؤمنة بحرية التعبير.
أكرر شكري للناس، والأصدقاء، ولكلّ مَن وضع ثقته بي، لكنني رجلٌ لي اسمي وسمعتي، ولا أريد المجازفة بها، وسأبقى مع الناس كما كنتُ، أنا رجلٌ غير معنيّ بلعبة التوافقات السياسية، ولا بلعبة التوازنات والمحاصصة، ولم أؤمن بمبدأ "الإمارة ولو على حجارة"، الذي يؤمن به كثيرون.
ما يؤكد ما أقوله هو الهستيريا التي أصابت بعض القوى السياسية التي ترى الشبكة مزرعةً تابعةً لها، وكذلك الموقف الحكومي غير الواضح والمتهاوِن بدعم شبكة اعلام مستقلة، لذا أنا اشكّكُ بِنيّة الطبقة السياسية، ومن ضمنها الحكومة، في أنها تريدُ شبكةً مهنيّةً تعملَ وفق المعايير الموضوعية والمصداقية والحياد.
لهذا، ونسبةً لِما تقدّم، أعتذرُ عن التكليف، لأنَّ الجهدَ سيكون نحتاً بجبل أصم، أو حرثاً ببحر، وهذا ما لا ينفعني، ولا ينفعُ الشبكة أو المشاهد، ولن يطور الخطاب، ولا أعلم باستمرار ذات المُدخَلات في معادلة الشبكة، لماذا نفترض أن المُخرَجات في وقتٍ آخر ستكون مختلفة؟
لستُ معنياً بالتوحّش الحزبيّ على الشبكة، أعملُ وقِبلتي الجمهور والحياد والموضوعية، لكن الهواء مسمومٌ بالتجاذب الحزبيّ، التي تغيّب كل الأدوات الحقيقيّة للإصلاح، وربّما هناك عشراتُ الأسماء التي ترتضي هذه المهمّة، ليس من بينها نبيل جاسم.
سأكون سعيداً بأداء أيّ مهمة وطنية عندما تتوفر أسباب النجاح والنية الصادقة الشجاعة للتغيير.
د.نبيل جاسم
6/تمّوز 2020
بغداد
منقول من صفحة الاستاذ محمد الساري