السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر قدس سره
الحديث عن الحرية، حديث ذو شجون...

فان الحرية رغم كونها فكرة رئيسية في مجال الفكر الحديث وكونها الهدف الأسمى والمثل الأعلى للانسان الحديث، ورغم كونها قضية بديهية غير قابلة للنقاش عند كثير من الأوساط. رغم ذلك فان الحديث عنها ذو شجون، فان لفظ الحرية في نفسه من الألفاظ العامة المطاطة التي لا تحمل معنى محدداً ينطبق على شيء مضبوط ومن هنا نجد الناس ينظرونها كل من زاوية مصلحته الخاصة وبحسب أفق تفكيره ومن خلال نظرته إلى الحياة، ومن ثم يمكن ان نحصل للحرية على تعاريف وتفسيرات لا تحصى متعددة بعدد مصالح الناس واختلاف مشاربهم واهوائهم. فهي عند القوي المستبد وسيلة لتنفيذ مآربه وبسط سيطرته، وهي عند الضعيف ذريعة للتمرد والاحتجاج على الظالم المستبد وهي عند الرأسمالي وسيلة لكسب المال وتوسيع التجارة إلى اكبر حد مستطاع، وهي عند أصحاب المذاهب الهادفة وسيلة لترويج آرائهم والدعوة إلى مذاهبهم، واخيراً نجد الحرية في النتيجة وعند نهاية المطاف قيداً حديدياً يقيد الناس به بعضهم بعضاً وسوطاً يلوح به بعضهم بوجه بعض.ولكننا اذا رجعنا إلى ما يمكن ان يفهم من هذا اللفظ، الحرية، بطريقة علمية موضوعية، نجده يعني اخلاء السبيل واطلاق السرب، بدون أن يكون هناك مانع يقيد الفرد عن القيام بالتصرف المهين سوى ارادته الخاصة وللحرية بهذا المعنى موارد وصور،ولكل مورد حكم معين نستمده اما من العرف الاجتماعي او الدين أو القانون ولكل مورد أيضا مجال في التطبيق العملي غير مجال الآخر. اذن فاطلاق القول في الحرية والحكم عليها بحكم ما، من حيث هي لفظ غير محدد، عمل جزافي لا يؤدي الا الى المغالطة وعدم الموضوعية، ومن ثم كان علينا أن ننظر الى أقسام الحرية وما يمكن أن تنطبق عليه من مجالات.
ويمكننا أن نعلم، بقليل من التفكير، أن الحرية يمكن أن تشمل المجالات الآتية:ـ
1ـ حرية السكن: وهي أن يكون الفرد مطلق الحرية من حيث اختياره لمسكنه سواء من حيث الدولة أو المدينة، بما في ذلك حرية النقل من أي مكان الى اي مكان .
2ـ حرية الرأي: وهي أن يكون للفرد الحق في أن يقول كل ما يخطر على ذهنه من آراء وأفكار مهما كانت تلك الاراء والافكار، بدون أي رادع او مانع.
3ـ حرية التصرف: وهي أن يكون الفرد مطلق الحرية بأن يعمل أي عمل يشاء، مهما كان العمل.
4ـ حرية العقيدة: وهي أن يكون للفرد أن يعتقد مايشاء.
5ـ الحرية الشخصية : وهي في مقابل ملك الانسان للانسان.
6ـ الحرية الاقتصادية: وهي أن يكون للفرد الحق باستثمار امواله كيف يشاء وأنى يشاء.
وحيث كان من البديهي ان الحرية المطلقة،بمعنى اطلاق السرب واخلاء السبيل لكل احد في كل عمل لا تؤدي إلا الى الفوضى والفساد و الا الى انحلال المجتمع الانساني وتفسخه، وذلك لان للانسان غرائز عديدة تطلب الاشباع بالحاح شديد وبأي طريق كان، والغرائز بطبيعتها لا عقل لها ، أي أنها لا تفكر في النتائج التي يمكن أن تترتب على الطرق المنيعة في اشباعها، فاذا لم يجد الفرد بعقله الواعي مانعاً من قانون أو دين عن الانطلاق الجنوبي بغريزته فانه سوف ينطلق بها الى ما يحمد عقباه ومن ثم بادرت القوانين والشرائع الى دفع الحدود والسدود امام تصرف الافراد بحرية مطلقة، لكي تلائم بين البيئة والغزيرة، ولكي تضمن الامن والنظام راحة المجتمع ورفاهه.وفي هذه النقطة أختلفت الأذواق والمشارب، وتباينت الحدود التي تضعها كل جماعة امام الحرية المطلقة، فان كل مشرع نظر الى المصلحة التي يريد تطبيقها على المجتمع والى ما يمكن أن يؤدي الى هذه المصلحة من القيود والحدود، وباختلاف تصور المصالح اختلفت التشريعات وتضاربت اساليب وضع الحدود، فقد رأى المتحللون اخلاقياً ان القيود كما كانت اقل عدداً واخف تحملاً كانت افضل وأقرب الى مصالحهم ورأى المتمسكون بالاخلاق بأن القيود كلما كانت اكثر وكلما استطاعت ان تضمن حسن السلوك وسيادة الفظلية في المجتمع، كانت افضل واقرب الى المصلحة، ورأى اصحاب العقائد الهادفة، ان القيد كلما كان دائراً في فلك عقيدتهم وكلما كان في صالح خططهم ومنفذاً لاغراضهم واهدافهم كان احسن واقرب الى مصالحهم، ورأت الحكومات ان القيود كلما كانت تضمن اكبر حد مستطاع من الامن والنظام وقلة الجرائم وعدم اعتداء الناس بعضهم على بعض، كانت افضل واقرب الى المصلحة، ورأى الرأسمالي ان القيود كما كانت خفيفة الحمل عليه، بحيث تسمح له بالحصول على اكبر قدر مستطاع من الاموال، وعلى اكبر فرصة للاستثمار، كانت افضل واقرب الى مصالحه الى آخر ما في هذه القائمة من أسماء وعناونين، اما نحن فماذا يمكن ان نستفيده من هذا الخضم المتعارض من الآراء والمشارب.
يمكن ان نستفيد من ذلك، ان الحرية المطلقة يستحيل ان تتحقق في المجتمع البشري، وان لم تكن هناك قوانين او شرائع ،وان بعض القيود نابعة من طبيعة المجتمع الانساني، فانه مادام هناك آراء وافكار وما دام هناك مصالح واهداف متقاربة متناقضة، فانها ـ حتماًـ سوف تتعارض وتتصادم،في ظل الحرية المطلقة، وسوف يرى الناس منها شراً مستطيراً، ويشعرون بالحاجة الملحة الى الامن والنظام، ومن ثم سوف يحاول كل فرد منهم عن طريق شعوري او لا شعوري ان يخفف من غلواء اندفاعه في سبيل ان يأمن شر الاخرين وينعم بشيء من الطمأنينة، فتنشأ بذلك قهراً قيوداً بدائية تلقائية لا نفصح عن نفسها الا عند اشتداد الخطر، ثم يظهر على مرور الزمان ان هذه القيود لمدى بدائيتها وغموضها، غير كافية لسيادة الامن والنظام، فأنها سرعان ما يرفضها الفرد اذا وجد أنها تتعارض ولو جزئياً مع مصلحة من مصالحه، وهنا تسود الفوضى وسوء استغلال القيود، فيشعر الناس بلزوم وجود ضابط معين محدد يضطر كل فرد الى التقيد بالقيود، بالاضافة الى ان تلك القيود البدائية لاتفي بالمقدار المطلوب من الامن والنظام وان التزم الناس بها، فلا بد من قيود جديدة، وهنا يأتي دور القوانين والشرائع وهنا اجد من حقي ان أسألك ان أي القوانين والتشريعات احسن هل هي التي تضع القيود بشكل يضمن اكبر قدر ممكن من الحرية او هو ذلك التشريع الذي يضمن بقيوده اكبر قدر ممكن من الامن والنظام وسيادة الاخلاق وألاداب بين الناس؟ ومهما يكن رأيك! فأني اذهب الى الرأي الأخير، لأنه اذا لم يكن للبشرية مناصاً عن القيود فينبغي ان تكون هذه القيود من الحكمة والدقة بحيث تضمن سيادة العدل والرفاه في ربوع المجتمع، وعلى هذا ايضاً بني الاسلام مذهبه في سن القوانين والتشريعات، كما سوف يظهر لك في غضون هذا البحث.بعد هذه المرحلة من البحث ينبغي لنا ان تنظر الى القيود التي وضعها الفكر الحديث امام تلك الاقسام من الحريات التي سبق ذكرها، وان نرى القيود التي وضعها الاسلام في نفس المورد، لنرى في النهاية عدالة الاسلام وحكمته وصواب نظره، وتوصله الى خير مما توصل اليه افكر الحديث بعد اكثر من اربعة عشر قرناً بعد الاسلام.وقيود الفكر الحديث على هذه الحريات يمكن ان تتلخص فيما يلي، مقتبسة من الأعلان العالمي لحقوق الانسان انضج ثمرة من ثمرات الفكر الحديث:
1ـ اما حرية السكن، فقد اعترف بها الفكر الحديث في ضمن حدود الدولة واعتبر ان (لكل فرد حرية التنقل واختيار محل اقامته داخل الدولة) اما الخروج عن الحدود الدولية فقد حرمته القوانين الحديثة الا بأذن خاص ومع الحصول على جواز للسفر، الا ان الاعلان العالمي ينص على انه يحق للفرد ان يغادر أية بلاد، بما في ذلك بلده، كما يحق له العودة اليه، ولكن لا بد ان يكون المقصود من البلاد التي يحق له ان يغادرها وان يعود اليها، ما كانت في ضمن حدود الدولة، وذلك بقرينة الفقرة الاولى من نفس المادة،من الاعلان، وهي المذكورة اعلاه، وبقرينة تحريم القوانين الخروج الى ما وراء الحدود الا بأذن خاص.
2ـ اما حرية نشر الاراء، فقد نص عليها اعلان حقوق الأنسان بقوله( لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق اعتناق الاراء دون أي تدخل، واستقاء وتلقى وأذاعة الانباء والافكار دون تقيد بالحدود الجغرافية، وبأية وسيلة كانت) وبهذا نرى ان هذا الأعلان قد ضمن هذه الحرية باوسع مالها من معنى، من دون تقييد في الوسيلة او الغاية، وبدون اي شرط آخر.
3ـ اما الحرية التصرف فقد ضمنها الفكر الحديث للانسان في ضمن حدود القانون، واجاز الحرية المطلقة فيما وراء ذلك، فأنه لابد ان ( يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وواجباته، لتلك القيود التي يقررها القانون فقط) اما في ضمن هذه الحدود فله ان يعمل ما يشاء وليس لأحد ان يمنعه عن شيء من أعماله، فانه( لا بد ان أي شخص من جراء اعمال او امتناع عن اعمال، الا اذا كان يعتبر جرماً وفقاً للقانون الوطني او الدولي وقت الارتكاب).