جاء في كتاب سيبويه: " وسألت الخليل عن قوله عز وجل : {فأصَّدقَ وأكنْ من الصالحين } ، فقال: هذا كقول زهير:
بَدا ليَ أنّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى
ولا سابقٍ شيئًا إذا كان جائيا
فإنَّما جرُّوا هذا، لأنَّ الأول قد يدخله الباء، فجاءوا بالثاني وكأنَّهم قد أثبتوا في الأول الباء، فكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزمًا ولا فاء فيه، تكلموا بالثاني، وكأنهم قد جزموا قبله، فعلى هذا توهموا هذا ". [3/ 100-101]
يبدو من نص سيبويه أن التوهم الذي جرى على لسان العرب جرى مثلُه في القرآن الكريم؛ موافقةً لكلام العرب في مظاهر استعمالاتها اللغوية، وعلى وفق ذلك ذهب بعض النحويين إلى أن ظاهرة التوهم اللغوي موجودةٌ في القرآن الكريم، وأنكر آخرونَ ذلك ؛ والحقُّ أن المصطلح النحوي في كتاب سيبويه لم يكن مستقرًًّّا، فقد يأتي المصطلح دالًًّّا على أكثر من مفهوم، والعكس كذلك، ولعل مصطلح التوهم من المصطلحات التي جاءت لمعانٍ متعددة في كتاب سيبويه منها أن يُحمَل الكلام الذي ظاهرُه الشكليُّ مخالفٌ قواعدَ اللغةِ، على المعنى، نحو: {فأصدَّقَ وأكنْ من الصالحين}، ومثل هذا الحمل وارد في القرآن الكريم،ولعل من هذا المعنى ما جاء في لسان العرب : " توهَّمتُ الشيء وتفرَّستُه وتوسَّمتُه وتبيَّنتُه بمعنى واحد " .
ومن دلالات التوهم إجراءُ المتكلمِ الاستعمال على غير سنن اللغة المطردة ظنًًّّا وتوهُّمًا منه أن كلامه موافق لاستعمال اللغة فتخيَّل وتمثَّل الشيء كأنه موجود، ولعل من هذا المعنى ما جاء في لسان العرب: " وتوهَّمَ الشيءَ تخيّله وتمثّله كان في الوجود أو لم يكن "، ويبدو لي أن هذه الدلالة في التوهم القائمة على التخيُّل هي التي ربطها النحويون بالغلط،فجاء مصطلح التوهم مقرونًا بالغلط في سياقات أحكامهم النحوية، وهي التي نُصَّ عليها في معجمات اللغة، نحو ما جاء في معجم العين: " يقال: وهمتُ في كذا؛ أي غلطتُ " ، وفي هذه الدلالة ينسكب معنى الظن القائم على سبق الشيء في الذهن على ما جاء من تعريفٍ للتوهم في المعجمات الاصطلاحية . وهذا المعنى بتفرعاته لا يقال في القرآن ؛ لأنه منزه عن ذلك، وقد نقل ابن جني عن شيخه أبي علي الفارسي في كتابه الخصائص [3/ 273 ] أنَّ أبا علي الفارسي كان يرى الغلط المحمول على التوهم في كلام العرب ناتجًا من عدم أصولٍ يراجعوانها وعدم قوانينَ يعتصمون بها، فتَهْجُم طباعُهم على بعض استعمالاتهم اللغوية فيستهوونها ويزيغون بها عن قصد الكلام .
قلتُ : هذا الذي يستهوونه من ارتكاب التوهم والغلط يساير سليقتهم اللغوية التي لم تتحكم فيها القواعد والضوابط، وعلى وفق ذلك عُرِّف السليقيُّ من الكلام ما لا يُتعاهَد إعرابُه، وعرّفه بعضهم بأنه ما تكلّم به البدوي بطبعه ولغته وإن كان غيرُه من الكلام آثرَ وأحسنَ [ ينظر تهذيب اللغة8/ 404] .
وخلاصة الأمر أن ما نص عليه بعض العلماء من التحرز في إطلاق مصطلح التوهم على بعض الاستعمالات القرآنية هو المرتضى عندي؛ تنزيهًا للقرآن ، ودفعًا لشبه الطعن فيه، ولأن ما جرى على سنن العرب في كلامها من معاني التوهم احتمل الحمل على المعنى، واحتمل تخيُّلَ الشيءِ وتمثُّلَه، واحتمل استهواء الشيء والزوغ به عن القصد .