من المعروف لدى الدارسين المتخصصين أن كل عصرٍ يُقاس بمدى مواجهته للتحديات التي تُفرَض عليه من خارجه أو داخله، ووَفْقًا لنوع هذه التحديات يتحدَّدُ المسارُ التاريخي والعطاء اللذان يكيِّفان المجتمعَ تكييفًا خاصًّا.

وفي ضوء هذه الحقيقة، فإننا لا نتوقع أن يكونَ المجتمع الإسلامي في العصرين المملوكي والتركي شبيهًا بالعصرين الأموي والعباسي كل الشبه، بل لا بد - مع وجود الأرضية العقدية والحضارية المشتركة - من وجود خلاف، ينطلق من عصرٍ جديد له ظروفُه وتحدياته الجديدة.

لقد كان المجتمع الإسلامي في عصر الأمويين والعباسيين يعيش ظروفَ تفوُّقٍ حضاري، وثقة مطلقة في الذات المسلمة، وتفاعلاً فكريًّا وحضاريًّا، ينطلق من الداخل مع العالم كله، ويسعى - وقد نجح فعلاً في سعيه - إلى أن يكون الحضارة العليا والكبرى في العالم كله لعدة قرون، بصرف النظر عن وجود أزمات أو مشكلات.

أما في العصرين المملوكي والتركي، فقد كان الغرب قد اتخذ زمام المبادرة بعد سبعة قرون من الانحدار، وهو إذا كان معطلاً عقديًّا وحضاريًّا، ولا يملِكُ ما يصدِّرُه للعالم الإسلامي في هذا المستوى، فقد عمد إلى الغزو العسكري الجماعي الذي يشبه أن يكون غزو البرابرة الهمج - في لحظات شعور الموت - للعالم المتحضر الأرقى فكرًا وحضارة!

ولو تعمقنا في الحالة الحضارية التي كانت عليها جيوش الصليبيين التي قاتلت المسلمين (مماليكًا أو أتراكًا)، فسوف نجدها - في الفكر والثقافة والعلوم والأخلاق - أقل بقرون كثيرة من المستوى الإسلامي العام.

وقد فرض هذا التحدي العسكري الصليبي - والوثني أحيانًا على يد التتار- على المماليك والأتراك أن يهتموا بالجوانب العسكرية، على حساب الجوانب الحضارية الأخرى، وما كان بإمكانهم أن يرفضوا المواجهة، ويتخلوا عن هذه الوظيفة التي فُرضت عليهم.

وقد أتاح هذا التحدي العسكري لخصومهم أن يتهموهم بالخمول الحضاري، وهو اتهام غير صحيح، فضلاً عن أنه لم يكن باستطاعتهم تجاهلُ التحدي الخارجي كما ذكرنا، ومع ذلك فإن ثمة إسهامات حضاريةً كبيرة قام بها هؤلاء وأولئك في خدمة الشريعة الإسلامية.

إن القاهرة - مثلاً - في العصر المملوكي (656 - 857هـ) يقول عنها ابن خلدون (ت808هـ)، الذي زارها وعاش فيها آخر أيامه: "إنها جنة الدنيا، مكتظة بجميع أجناس البشر، مدينة ازدانت بالقصور والدور الفخمة، مضيئة بنجوم العلم والمعرفة"، وفي تعليقه على كلام ابن خلدون يضرب (ول ديورانت) المثل بقايتباي بأنه: "أعظم البناة بين المماليك البرجية"، وبالرغم من أن الحرب أنهكتْه فقد دبر الأموال لتشييد المباني النفيسة الكثيرة في مكة والمدينة والقدس، وجدد في القاهرة قلعة صلاح الدين والأزهر، وشيَّد نزلاً، وبنى داخل العاصمة مسجدًا.

إن ابن بطوطة (ت 979ه= 1577م)- مع ابن خلدون (ت 808هـ)، وابن الخطيب (776هـ= 1374م)- من هؤلاء الذين نجد عندهم وصْفًا للحياة الاجتماعية في هذين العصرين المملوكي والتركي.

وعندما نتتبَّعُ وصف هؤلاء وغيرهم، فسوف نجد الشريعة الإسلامية هي المهيمنة على روح المجتمع وسلوكياته، مع وجود أخطاء بشرية، ولا سيما في مستوى العسكر والسياسة.

و"ديورانت" - وهو يحلل لنا هذين العصرين - نجده أكثر دقة وإنصافًا من أكثر المؤرخين المسلمين، فقد زار ابن بطوطة أكبر الحكام المسلمين في عصره، والتقى بالعلماء أيضًا، وحين عدَّد أعظم الملوك في عصره حصرهم في سبعة ملوك، ذلك أن منهم ستة من المسلمين، وواحدًا صينيًّا، وأما العلماء في هذا العصر، فقد كانوا كثيرين؛ مثل الشعراء، وكانوا يكتبون باللغة العربية، كما جمعوا في كثير من الأحوال بين الدرس والتأليف، وبين النشاط السياسي والإداري، وكان أعظم الكتاب إنتاجًا في التاريخ الطبيعي من المسلمين خلال القرنين السابع والثامن الهجري، وإن الكتاب العظيم "حياة الحيوان" الذي ألفه محمد الدميري (ت 808هـ= 1405م) لمن أقوى الشواهد على هذه الحقيقة، كما كانت المستشفيات كثيرة في العالم الإسلامي.

وقد كانت الشريعة الإسلامية هي المصدرَ الوحيد للتشريع والقضاء، وكان الفقهاء هم القائمين على حراستها والاستنباط منها، ويفسر لنا الأستاذ: حنفي محمود خطاب ما كان لرجال الدين من سطوة ونفوذ في الدولة المملوكية بصفة عامة، فيقول: "إن الدين كان منبعَ القانون بين الناس، وكان سلاطين المماليك لا يعرفون أحكام الشريعة، أو وسائل تطبيق تلك الأحكام؛ لأنهم عاشوا عيشة عسكرية منذ نشأتهم، ولم يعرفوا من شؤون الدين سوى ما تلقنوا من مبادئه الأولى في شبابهم الأول بثكنات القلعة وطباقها، وكان من الطبيعي أن يترك المماليك لرجال الدين تلك الناحية من شؤون الدولة"[1].

[1] دكتور عبد الحليم عويس: دراسات في تاريخ الحياة الإسلامية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1430هـ= 2009م، ص129- 131.