قصة الطاووس الابيض
كان هناك طاووس ابيض وهو لم يكن الطاووس الأبيض الوحيد في لشبونة وحدها او في إسبانيا فقط لكنه كان يظن انه لا يوجد غيره في كل الدنيا، وكان جميلاً الي حد اننا لا نستطيع ان نصف بهاءه، ما يكاد يسير في ارجاء حديقة القصر حتي يسترعى الانظار ويشد الانتباه، وما يمكن لأحد ان يرفع بصره عنه ولابد لكل من يراه ان يهتف بكلمات الاعجاب الشديد فاتحاً عينيه وفمه في انبهاء : سبحان الله ، وكان الطاووس الأبيض يدرك ذلك ، لهذا كان يتمشي بخطوات وئيدة رافعاً رأسه للسماء ماداً رقبته في خيلاء واعتزاز باسطاً ذيلة في نصف دائرة يشكلها ريشه في نسق بديع .. ما اروع صنعك يا الله .
ويمضي الطاووس الأبيض تجاة بحيرة البط يتهادي في صمت ووقار كأنما يقول للجميع : انظروا واستمتعوا هل رأيتم لي مثيلاً ؟ وهو يتطلع هنا وهناك ويلقي بنظرة الي هذا وذاك وسرعان ما يستردها ، هو وحده الجدير بأن يتطلع اليه الجميع، وعندما يصل الي البحيرة ينظر الي صورته علي سطح الماء، ويرجو لو انه بقي طوال يومه يتمتع بها وما أجدرها بذلك وهي تستحقه بدون شك .
ما من أحد في لشبونة او في اسبانيا او في العالم كله إلا شعر بالغيرة من هذا الطاووس الابيض وخاصة جلالة الملكة ، صاحبة القصر التي اقتنت الطاووس ثم احست انه يجذب اليه الانظار فلا تتجه إليها، كيف يهتم الناس بهذا الطاووس اكثر من اهتمامهم بي، أنا الملكة، كانت جلالتها سمينة بدينه واذا ما سارت في القصر او الحديقة ترجرج لحمها واذا نظر اليها الناس بجانب عيونهم حاولوا ان يكتموا ضحكاتهم وان يخفوا ابتسامتهم، الأمر الذي كانت تعرفه تماما المعرفة وتضيق به كل الضيق، لذلك نشبت فيما بينها وبين الطاووس الابيض معركة، كانت في البداية صامته، هو يتعالي عليها وهي قررت ان تقضي علي كبريائه وغروره بشكل أو بآخر لتكون هي وحدها محط الأنظار .
اقبل الصيف وهو في لشبونة جنوب اسبانيا شديد الحرارة، ولكن غضب جلالة الملكة البدينة علي طاووسها الابيض كان اشد حرارة، لذلك استدعت اليها رئيس الخدم وقالت له : هذا الطاووس الابيض يحتاج منا ان نلقنه درساً في التواضع لا ينساه ابداً، سوف اقيم حفلاً فاخراً في القصر ادعو اليه اصحاب الفخامة والسمو والرفعة في البلاد، ولا اريد لهذا الطاووس ان يخطف مني الاضواء، لذلك اذهبوا وقصوا لي ذيلة وانتزعوه من اجل ان استخدمه مروحة تخفف عني حرارة الجو .
فزع كبير الخدم لذلك وعندما نقل أوامر جلالة الملكة الي معانيه ابدو دهشة شديدة، لكن ذلك لم يمنع بعضهم من ان يهتف : انه يستحق ذلك .. وعندما علم الطاووس بالأمر نزل عليه كالصاعقة واشتد به الذعر وخاف من ان يفقد ذيلة الجميل، جمع ريشه وحاول ان يخفيه ومشي يائساً منكس الرأس دامع العينين كأنه داجاجة ذليلة، همس الطاووس الابيض لنفسه : يجب ألا ارضخ لهذا الامر الجائر والقرار الظالم، لابد لي من ان اجد حلاً، ما ذنبي وقد خلقني الله جميلاً، وجاء الرد من داخله : لك ان تعتز بجمالك لا ان تغتر به، وتتيه علي كل المخلوقات وخاصة هذه التي ترعاك، ومن جديد قال : ولكنني يجب ان احافظ علي هذا الجمال وان اقاتل من اجله ولو ضد الملكة .
خطرت علي باله فكرة سرعان ما عمل علي تنفيذها، اتجه نحو القصر هادئاً وديعاً يسير في ضعف وهوان وصعد السلم وقد انكمش علي نفسه وطوي ريشه ومضي الي غرفة الملكة مباشرة ولم يعترض طريقة احد، وطرق باب جلالتها ودخل اليها لينحني ويقول : مولاتي ما السبيل حتي انقذ ذيلي واحتفظ به انه كل ما املك وما من شئ لي سواه، قالت الملكة : هذه هي الوسيلة حتي تنهي غرورك، وإن كنت قد عدت الي صوابك فعليك ان تبرهن لي ذلك وتقدم الدليل عليه .
سادت لحظة صمت كان من الواضح ان الطاووس يمعن التفكير في شئ ما يرضى به جلالة الملكة وبعد حين رفع رأسه وقال في صوت هادئ يستعطفها : غداً يقام الحفل الكبير وسوف اذهب حتي آخذ حماماً دافئاً واغتسل حتي ابدو نظيفاً وعندما تجلسين جلالتك علي العرش سوف اتسلل من ورائك دون ان الفت النظر واقف من خلف العرش وأهز ذيلي كأنه مروحة، سوف اكون مختفياً تماماً ولن يراني احد، فقط ذيلي يرتفع وينخفض ويتحرك يميناً وشمالاً ويهفهف من اجل ان يخفف عن جلالتك حراراة الجو، كم سيكون هذا منظر بديع وجذاب .
تصورت الملكة المشهد ورأت انه سيكون جميلاً بالفعل فقالت للطاووس : انها فكرة لا بأس بها، ولكنك تحتاج الي تدريب طويل خاصة أنك اذا لفت اليك الانظار فلن يطير منك ذيلك فقط، ضحك الطاووس ليخفف من حدة الموقف وتوتره وقال : اعرف ان رأسي ايضاً سيطير، ابتسمت الملكة وقالت : اذا كنت قد ادركت هذا، فاذهب وحاول ان تتقن عملك .
غادر الطاووس المكان وهو يشعر بالراحة ولم ينم طيلة ليلته، رح يتدرب علي تحريك ذيلة كمروحة حقيقية دون ان يراه احد او تقع عليه عيون الضيوف، وهو يقول لنفسه طوال التدريب : لاشك ان دنيانا مليئة بالطواويس الجميلة ولست اظنني الطاووس الابيض الوحيد في هذا العالم، فإن الذي خلقني قادر علي ان يخلق مثلي بالعشرات وربما بالمئات بل والأولف، وبينما كنت انا وحدي الذي ضاق به الجميع بسبب غرورة، ماذا لو انني فعلاً قد فقدت ذيلي، لا قدر الله، كنت سأنتهي الي الابد .
كانت هذه هي الافكار التي خطرت علي بال الطاووس وهو يروح عن جلالة الملكة اثناء جلوسها علي العرش خلال الحفل، وقد اختفي جيداً وتطلع اليها الكبراء والعظماء بدهشة في منظر رائع واعجبوا بها كثيرا، اخيراً اصبح الطاووس له عمل يؤديه بدلاً من هذا الغرور والتعالي وشعر اهل لشبونة بالارتياح لأن الطاوس الابيض لم يفقد ذيله بعد ان استخدم رأسه .