تأمَّلْ قولَه تعالى في أواخر سورةِ المائدَة:
« يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ. إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »
إذْ قال الله يا عيسى - إذ أيدْتُكَ - وإذ علَّمْتُكَ - وإذْ تَخلُقُ - وإذْ تُخرِجُ المَوْتَى - وإذْ كَففتُ بَني إسرائيلَ - إذ جئتَهُم - وإذْ أوحيْتُ إلى الحَواريّينَ - إذْ قالَ الحَواريّونَ
الأساسُ المَقاميُّ الذي وَرَدَت فيه "إذْ" تسعَ مراتٍ متتابعات هو مَنهَجُ حكايَةِ المُحاوَرَاتِ. إذا تأملتَ هذه الآياتِ وجدتَ فيها أنواعا كثيرةً من الروابط التي تشد العبارات بعضَها إلى بعض، وأبرزُها هنا الربطُ بالظَّرْفِ "إذْ" : ففي قوله تعالى {إذْ أيّدتُكَ بروح القُدُس} تعلَّقَ الظّرفُ "إذْ" بـ {نعمتي} لأنها اسم مشتق فيه معنى المصدر إنعام، والتقدير: النعمة الحاصلة في وقت التأييد بروح القدس.
و تكرُّرُ الظرفِ "إذْ" دَليلٌ عَلى منزلَة ظرف الزمانِ في مَساقِ هذه الآياتِ، ومركزيَّته في إقامةِ ترتيبٍ وعطفٍ بين الوَقائعِ التي يَنبغي تذكُّرُها، فهي أدلّةٌ وَبَراهينُ زمنيّةٌ على قضيّةِ صدقِ الرسالَة، سيقَت عَلى هيئَة مُحاورات ولَفتِ انتباهٍ وتَذكيرٍ بما حَصَلَ من النعمِ التي سيترتَّبُ عليْها نتائجُ عظيمةٌ. فتَكرارُ أداةِ الدلالَة الزمنيَّةِ ربطٌ بينَ الآياتِ والعباراتِ برابطٍ يُرادُ له أن يَكونَ متصلاً بتَذكُّرِ النعم في الزمَن وتَثبيتِ الوَقائعِ في الذّهنِ، وإشعارِ المُخاطَب بأنّ الأحداثَ الكبْرى تترتَّبُ عليْها نَتائجُ كُبْرَى.
الربطُ بإذْ، قَلَّ مَن عَدَّه أداةَ ربطٍ من النحويّين واللغويّين، فلم يَكادوا يَزيدونَ على البَحث عَن تعليقِ كلِّ ظرفٍ بما يدلُّ على الحدثِ مَعْنىً وأن يَكونَ مشتقاً لَفظاً وصَرفاً، أو جامداً مؤولاً بمشتقٍّ أو حرفاً فيه رائحَة الفعلِ ومَعْناه. فإذا ألقيْنا الحَبْلَ الزَّمانيَّ رابطاً بين العباراتِ أُشْرِبَت الآياتُ مَعْنى جديداً أو فَضاءً دلاليا جديداً أو حَقلاً خاصاً يُقرأ في ضَوْءِ الشُروط الزمانيةِ.