لم يَتغَيّر شَيء في هذَا الحَي القََزْديري، نَفسُ الوجُوه القاسيةالتعيَسَة ، و نَفْس المَزَابٍل تملأ جَنباتٍه، رَوَائِحُ مجْرى تصريف المياه،وسَط الأزقة تزكّمُ الأنُوف ،والقطط التّي كانت تتسَابق معها َعَلى اللّقمَة قُرْبَ حَاوِيَةِ الأزّْبَال لاَتزال تَجْثُو هُناك . رَكَنَتْ سيارتَها الفاخِرة قُرْبَ دُكان البقّال الّذي تمقُته. طَلَبَتْ منَ الحَارس الإهتمَام بها مدّت له مِئة درهم, تذَكَرَت حينَ كانت تبْحَث عن دِرْهم لتَشْتَري مَا يَسُد جوعَها و أطْفال خالَتِها, لَمْ تجِد سِوى ذِئابا جَائعَةًً تُريد نَهْشَ لَحْمِهَا. رأتْه من بعيد عَلَى نَفْسِ الجِداَر، يُوَزّعُ نَظَراتَه عَلّه يَتصَيّدُ فريسَةً، ارتَعبَت و ارتعشَت، كان يراقب كل حَركاتها، حاوَلت أن تتماسَك حتى لا يحِس بضعْفِها، هِيّ قَويّةٌ الآن بِنُفُودها، عَليْهِ أنْ يَخافها .
كم كافَحَت وَسَط هَذِه القُلُوب القَاسِية لتُعِيل الأسرة الّتِي حضنتها، .دَخلت لِلْبَرّاكَة(بيت من قصدير)المُتهالكة ، والصَّدأُ يُغَلّفُ قصديره، وجنبَاتُه مُهتَرءَة آيِلَةً لسّقُوط . وَجدت خالَتَها تنام بنَفس المكان، التي اعتادَت أن تجدها فيه منذ طفولتها ،نفس اللإبتسامة الوهِنة تعْلو محياها ، ابتسامة حيّرتْها مُنذ طفولتها ، لِمَا تَبْتَسِم خالتها؟ لزَمن أرهَقَهَا بِحَمْلِ أيْتَامِهَا وأضافتْهَا هِيّ، كأنّهَا تُعَانِدهُ، وهو أبى سِوَى أن يَزيدَها هَما فأعَلَّ صِحَتَها .َ وجدارالغرفة بصباغته الرديئة القَديمة عُلّقت فوقََه صُورةَ "المرحوم" زَوجِها كَأنه شَاهِد عَصرٍ عَلى مَا تُعانيه هذه الأسرة في غيَابِه. تَذكرت وَقتَها اَنّهَا لاتملك أيّ صُورةٍ للأبَوَيْهَا.. نَظَرَتْ للأثاث الذي اشترته في زيارتها الاخيرة مَنْظَرُهُ مُتَنَاقِضًا مَعَ مَلامِحِ الكُوخِ الفَقيرَة. لا كهْرباء ولاَ ماء صالح للشرب، وَهيّ صغيرة كَانَتْ تَجلُبه ُمِن سَقّاية الحي،حيث البناتُ يضْحَكن على شَكلها المتّسخ ، ولِباسِها الرث،لم يرحمن يتُمها وينفرن منها كأنهاَ وَباءٌ " آه يا بشر قلوبكم قاسيةأكثر كالحجر ". َرفعت الأقْمشة بِألوانِها المُزَرْكَشة كلباس مُهرّج،التي تقَسّمُ أجْزَاءَالغُرْفةِ الى غرفة نوم، وغرفة معيشة ..رَسَمت ابتسامَة حزينة عَلى شَفتَيْها، عَاشتْ طفولتها وَكبِرَتْ هُنا، ضَحكاتُهم وَلَعِبهم كَانَ هُنا فَقط، حتى آلامها و الجرم الذي قَلَبَ مجْرى حياتهَا شهِدت عليه أركان الغرفة ، حُزْن وغضب قَلبَ مزَاجَهَا، لٍوَهْلَة انْقَضََب جَبينُها لِتِلْكَ الذّكرَى،لَكن تَداركَتْ الأمْر ؛ انحَنتْ وجَثتْ عَلى رُكبتَيْها وقَبّلَتْ رَأسَ خَالَتِهَا
-كَيِف الحَالْ يَا الغَالِيّة،أهمَلتي صِحتك مُجَددًاوَلاَ تشْرَبِينَ الدواء:وعَاودك الألم.
-لاَ،،لا،، ارتَفَعَ ضَغْطي اليوم قَلِيلا أكَلْتُ بَعضَ الحلويات..اجْلِسِي بِقُرْبِي وخَبّرينِي عن أحوألِك...هَلْ أنْتِ بخيْر ؟
بنظرةِ الحَنان المَعهودَةَ مِن ْ خالََتها الّتِي افتقدتْها كثيرا إحْتَضَنتْها :-أنا بخَير أدامك الله بخير وَلا تَحتاجين لِشئ ...أنتي تعْرفين لاينقصُني شئ. لا تُحِبّ أن تُنَاقِش حَيَاتَها ،لقد حسمت أمرها وانتهى..
لِما لاتَتّبِعين الحِمية؟
- كنّا قطعة الخبزالصغِيرة نتقاسمُها خمستُنا،وهي لاتسد جوع قطة جائعة...واليوم توفَرَرت اللّقمة وتردين أيضا ان أتبع حمية .
-سَتَنْتقِلُون قريبا من هذا المكان الضيق.. سَتَتحَسّنُ صِحتُك، بعيدا عن الرطوبة القاتلة. والربو ستخف نَوباته، الروماتزم الذي أتْعَب مَفاصِلَك ؛ إسْتشرت أخِصائِيا صينيا سَتَتَداوَين بالوخز بالإبر .
ابتسمت الخالة بحزن، "لَوكَنت ْبِصِحة جيدة لَما كنْتِي هَكذَا، الفقر كافر..والمرض اعجزني..وما باليد حيلة" ردَدَت مع نفسها .
رَبّت الخالة زينب إبنَة أُخْتهَا حسناء ؛وعُمْرُها ست سنوات؛ مَاتَ أبَوَيْهَا فِي حَادث سَيْر؛ لحافلة كانت تُقِلّهُم، َ هَوَتْ بِهِم في واد عميق لَمْ ينجو منها غيْرَهَا ،و ست اخَرينَ من ثمانين رَاكِبا،.أستولى عمها على بيتهم و الدكان.. بَعد أنْ أصبح وصيا عليها لأنها قاصر، رَمَاهَا بعدها فِي مَلْجَإ الأيتام بعد أن رَفضَتْ زَوجَتَه تَرْبَتِيَها.
سُوء التغدية ،قساوة المعاملة ، جَعلَ صِحتَهَا تَتَدَهْور ،َ خَالتهَا الّتِي أشفَقت علَيْهَا قَرّرَت تَرْبيتها مَعَ أبْناءِها الثلاثَة فِي حيٍّ فَقِير ٍبالبيضاء. أحسّت معهمَ بِالحَنَان وَدِفْئ الأسرة ،كَبِرتْ و هِي تُساعد خالتها في بيع بِضأعَتِهَا الّتِي تجلبها من الشمال ،بِفَرْشِهَا جُنُبَ الطرقات وَقُرْبَ الأسواق. مَرضَتْ خالتها ولم تعد رُكبتيْها ْ تُسْعِفُهَا على حمل جسدها، فَوجَدتْ نَفسَها مسؤولة عن إعالة الأسرة
. باعت المناديل الورقية ، العطور الرخيصة، معطرات الجو، بين الطرقات وسط زَحْمَة السيارات ، ، كان همها كيف تكسب دُرَيْهمَاتٍ لتشتري الدواء والأكْل وحَاجِيَات البيْت الْبسيطَة.
تَأمَلت حسناء بنت" 19" سنة ربيعا وجْهَها فِي هذه المرآة القديمة ،تَغيّرَت كثيرا لم تعد ترى تلك البراءة في نظراتها ولا تلك الطفلة اليتيمة التي استغلها الجميع لسذاجتها ،أصبحت المساحيق تُغَطي جَمَالهَا الطبيعي ، بعُيونِها الزّرْقاوتيْن؛ و بشرتِها الّتِي تُضاهي في بَياضِها الْبِلّوْر في صفاءِها وَ نقَاءِها. كان يُسَمّونَهَا فِي الْحيّ "بالغجَرية الحسناء" بِشَعرها الكَسْتنائي؛ الْمُنسدِل على ظهرها بفَوضَويّة، لا احد يعتني بِتَصْفيفِه . قطة شرسة مع شباب الحَي كانت ، نظَرَات الشيوخ تشمئز منها وحركاتهم ولمساتهم .ذلك البقّال اللّعِينُ الّذَي يُسَاوِمُهَا بِقِطَع الْحَلْوى الشّهية ،وألْوَانها الخلابة، قاومت رغْبتهَا وَ سحرها بِالرفُض..بَدَأتْ مظَاهِر الأنوثة تَرْسُم تضاريسها عَلى جِسْمِهَا،وابْتَدأت تعتني بنفسها وتفتخر بِقِوَامِها،بَدأت الأحلام الوردية تُنْعِش قلبها، كَسَرَ كٍبريَاءها و وأَدَ أحلامها في قبر النسيان، ذَلك الوحش البشري حين هَجَمها، كذئب جائع في بَيْتِهم ذات ليلة؛ مُسْتغلا غياب خالتها، و أنقَضّ على عُذريتها، صُعلوك الحي، بائع جميع أنواع المخدرات، وابْن جيراَنِهِم ،سَطّرَتْ السّكاكين تَفاصيل وَجْهِ، جعلته يشبه خريطة العالم . شَكتْه خالتها، سُجِن سنتين و عَاد للحي ليُصبحَ كَابوسًا لهَا وللأخَواتِها. اليَوم يَخافهَا بَعْدَ أن علم بقُوة نُفوُدهَا وبطشها كيف لا وقد أذاقته انتقَمها.
تذكرت كيف تغيرت حَيَاتهاوهي تبيع في احدى اشارات المرور بضاعتها، تزعج رُكّاب السيارات، يرمقونها بنظرات احتقار، يرمونها بوابل من الشتائم، و يتفوهون بأقبح الكلمات لينعتونها بها،. يومها توقفت تلك السيارة الفاخرة أمامها ،سائقها أجنبيا، طلب منها ان تركب معه، رفضت،. وشتمته لكن أخبرها أنها يريدها أن تخدمه فقط، وهي من كانت مرات عديدة تخدم في البيوت.. و بعد انطلاقهما أخبرها بأنه يرغب أن تكون عَشيقَتهُ، فيوفر لها جميع ما تريده من لباس و مجوهرات ..وحتى مستقبلها يتكفل بوضع أسهم باسمها في شركاته الكثيرة. وان رفضت فَلتَكن خادمة لَهُ وأجرتها كلّ شهرتتوصل بها، يَود ّمُساعدتَها ويوفر لها عملا. أخْبَرها عَنْ زوجته وابنه اللّذان يعيشان في باريس ولهُما أعملا هناك لم يستطيعا المجئ للمغرب ووالعيشَ معه. و يحتاج لمن يُؤْنِسُ وَحدتَه هُنا ، ويكون له وَحدهُ، ويوفرَلهَا جميع متطلباتها، وايضا ما تحتاجه في حياتها وأقاربها .و سيعلمها أسرار التجارة وكيف يمكن ان تعتمد على نفسها في اللعب مع الكبارفي الاسواق العالمية، بدل حياة الفقر التي سيضيع جمالها فيه؛ وهي تجمع الدريهمات بين السيارات ....بعد فحص طبي واتفاق على شروط كليهما.. اشترى لها بيتا في أرقى أحْياَء البَيْضاء و وضع لها رصيدا مفتوحا في البنك.. غَيرَحياتَهَا، وصارت تتبضع من أفخم المتاجر،ودخلت أرقى الصالونات، وقضت اجازاتها معه خارج الوطن. علمها القراءة و الكتابة.عرفها على كبار رجال الاعمال و كيف تقام الصفقات،و سر النجاح في الحياة ، تعلمت أن الحياة أخد وعطاء ولا أحد يرحم الفقيرأو يَحْترِمه .. ،دخلت عالما لم تكن تعرف يوما أنه موجود في بلدها.... ساعدها قوامها الرشيق وجمالها وذكاءها في انبهار الكثيرن بها .. و ووفرت لخالتها مصروفا شهريا كفاهم شر العوز...كانت عروض الزواج تتقاطر عليها من كبار الشخصيات،وأغناهم ، رفضت لأنها فهمت أن اللعبة كلها مادة ومظهر حلو .
بعد أن اسْتسلَمَت خالتها لمفعول الدواء وَغَطَتْ في سُبَات عميق..اختلت بنفسها في الركن الذي كانت تنام فيه واحتضنَها وَهي صغيرة، تمنت لو وجدت حضن أمها لتعيد ترتيب حياتها التي تغيرت بموتهم، تخيلت للحظة كيف كانت ستكون لو عاشت في كنف أبويها ؛أكيد ستكون االآن جامعية تتابع دُرُوسَهاوتعرف الحب وتحلم بتكوين أسرة .. استسلمت لنوم عميق علها تجد الراحة في أحلامها بعيدا عَنْ آلام الوَاقِع وَجِرَاحِه.