في صيف عام 1974م قرأت كتاب أستاذنا تمام حسان (اللغة العربية معناها ومبناها) فوجدته كما وصفه مؤلفه "محاولة شاملة لإعادة ترتيب الأفكار اللغوية"(1)، ففيه استثمار ذكي للأفكار النحوية، وبسط في هذا الكتاب ما عرف بنظرية تضافر القرائن اللغوية التي يراد لها أن تكون بديلًا عن نظرية العامل، وأعادني اليوم إلى هذه النظرية باحث نابه هو الأستاذ دغيثر بن مقبول بن محمد بن إبراهيم حكمي حين تفضل بإهدائي نسخة من رسالته لدرجة الماجستير (شواهد النحو الشعرية المحكوم عليها بالقلة والندرة والضرورة والشذوذ في ضوء نظرية تضافر القرائن).
جاء هذا البحثُ في مقدمةٍ وتمهيدٍ وفصلين وخاتمةٍ؛ فأمَّا التّمهيدُ، فهو إجمال لأحكامِ النحويين على ما خرجَ عن القاعدةِ مِن الشّواهدِ الشّعريّةِ، وبيانٌ لنظريّةِ تضافرِ القرائنِ المعنويّة واللفظيّة. وأمَّا الفصلُ الأوّلُ، فهو: ما يُحملُ على التّرخُّصِ في قرينةٍ لفظيّةٍ، وأمَّا الفصلُ الثّاني، فهو: ما يُحملُ على استدعاءِ دلالةٍ غائبةٍ، وبهاتين الفكرتين (التّرخُّصِ) و(الاستدعاءِ) اجتهد الباحث في تحليلِ الشّواهدِ ملتمسًا أصولَها في تعليلاتِ النحويين التي تفصحُ عن بذرتِها قبلَ جلائها في نظريّةِ تضافرِ القرائنِ.
وذكر الباحث أن نظرة تمّام حسان إلى الشّواهدِ الخارجةِ عن نطاقِ الكثرةِ والاطّرادِ والقياسِ جليّةً فيما سمّاه بالتّرخُّصِ في القرائنِ اللفظيّةِ الذي هو ركن أساسيّ في نظريّتِه؛ إذ يقولُ عن ذلك: "وفي إدراكِ هذه الحقيقةِ تفسيرٌ لكثيرٍ مـمّا عدَّه النّحاةُ مسموعًا يُحفظُ ولا يقاسُ عليه، أو شاذًّا أو قليلًا أو خطأً"(2).
ويعدّ الباحث هذا النّصَّ المنطلقَ لبحثه في الوصولِ إلى التّفسيرِ الحقيقيّ لتلك الشّواهدِ، وإلى حقيقةِ التّرخُّصِ عندَ العربِ، وإلى مدى قدرةِ هذه النّظريّةِ على اكتشافِ أحكامٍ جديدةٍ. ولكن ما وصل إليه الباحث من أقوال واجتهادات لا فضل فيه للنظرية؛ إذ كان يمكن أن يقال من غيرها.
وأما طريقته في الدراسةِ فهي أن ينصَّ على القاعدةِ النّحويّةِ التي خرجَ عنها ما وُجدَ مِن الشّواهدِ موثَّقةً مِن كتبِ النحويين، ثمَّ يذكر تلكَ الشّواهد التي خرجَت عن القاعدةِ ليعمد بعدَ ذلك إلى تحليلها في ضوءِ نظريّةِ تضافرِ القرائنِ بسردِ القرائنِ المتضافرةِ على معنى الشّاهدِ، ثمَّ بيانِ وجهِ التّرخّصِ أو الاستدعاءِ وما اعتمدا عليه مِن القرائنِ الحاضرةِ، مع مناقشةِ بعضِ تخريجاتِ النحويين.
إن أظهر ما يلفت انتباه القارئ هو صبر الباحث وجلده في استقراء الشواهد الشعرية المعنية ثم تقصي القرائن المتضافرة لمعنى كل بيت ليضعها بين يدي تحليل البيت.
وقد أعجبني كثيرًا تمكن الباحث من القضايا النحوية، وظهور شخصيته البحثية بالقراءة الناقدة المصطفية لأدل النصوص مع لغة سليمة واضحة، فتجده أحسن فهم المصطلحات النحوية وأحسن استثمار معرفته في مناقشة القضايا والنظر فيها، وتفطن لجوانب دقيقة بما وفق إليه من التأمل والتدقيق وجودة الاستنتاج، من ذلك توقفه عند المثل المشهور (عسى الغوير أبؤسًا) الذي يستشهد به النحويون على مجيء خبر (عسى) اسمًا مفردًا لا جملة فعلية، فهو يذهب إلى "أنَّ الفعلَ تامٌّ متصرّفٌ في المثلِ، ومعناه: اشتدَّ الغويرُ أبؤسًا، و(أبؤسًا) تمييزٌ منصوبٌ أصلُه الفاعلِ، أي: اشتدَّت أبؤسُ الغويرِ"، وأراه موفقًا في قوله، مع أني لا أعدّ أفعال المقاربة من نواسخ الجملة الاسمية.
وعلى الرغم من إعجابي بمجمل ما ذهب إليه قد أخالفه في أشياء يسيرة، منها مثلًا أنه عند شاهد الأخفش:
لو لم تكن غطفانٌ لا ذُنوبَ لها*** إذًا للامَ ذوو أحسابِها عمرا
تابع محمود شاكر الذي ذهب إلى أن الصواب في (ذنوب) كونها مفردًا، أي ذَنوب، بمعنى حظّ لا جمع ذنْب، وذكر أنّ شاكرًا "قد اعتمدَ على قرينتي التّضامّ والعلامةِ البنائيّةِ ليستدعيَ دلالةً معجميّةً يحرّرُ بها الشّاهدَ مِن الشّذوذِ"، وليس في قول شاكر ما يدل على هذا الاعتماد، والغالب أن الأخفش تلقى هذا البيت مشافهة، وهكذا ورد في ديوان الفرزدق(2)، والمعنى يقتضيه، قال خالد الأزهري "والدليل على زيادتها أن المعنى المستفاد مستفاد من (لو) لأن (لو) شرطها ممتنع، والغرض أنه منفي بـ(لم)، وامتناع النفي إثبات، فدل على إثبات الذنوب لغطفان، لا نفيها عنها، وإذا ثبتت الذنوب امتنع اللوم؛ لأن جواب (لو) إذا كان مثبتًا في نفسه يكون منفيا بعد دخول (لو)"(3).
وأما توقفي فهو في جعل نظرية القرائن إطارًا لبحثه بتسليم تام بمنطلقاتها وإجراءاتها، وما أراها أضافت إلى عمل الباحث شيئًا؛ فما تصدر به المسألة من قول بأن جملة من القرائن تضافرت في المعنى ينتهي بتعدادها، لنرى الباحث يبدأ نقاشًا نحويًّا أصيلًا يكاد يكون مستقلًا عن تلك النظرية وينسي أمرها إلا من ربط أرى فيه تكلفًا، وأما القول بالشذوذ أو الضرورة أو القلة أو الندرة فلا يختلف عن القول بالترخص سوى أن الترخص عمّم مخالفة القاعدة فجعلها في سلة واحدة هي الترخص، وكل ذلك موقف معياري لا وصفي؛ لأنه مبني على معرفة القاعدة والنظر في ما خالفها فحكم عليه بالمخالفة وسميت ترخصًا، مع أن فكرة الترخص نفسها ليست بالوضوح الجلي المقنع، وأرى في المقابل أوصاف النحويين أي الضرورة أو القلة أو الندرة أو الشذوذ تعابير عن مخالفة نصوص لقواعد اللغة المشتركة.
ومهما يكن من أمر فهذا جهد مشكور أظهر لنا باحثًا متميزًا استفاد من توجيهات نحويّ شاعر متميّز هو د. محمد بن علي العمري. وأرى العمل جديرًا بالقراءة.