ذكر ابن مالك الألفاظ المطلقة على التمييز وإن لم تكن في شهرته وهي (التبيين والتفسير والمميز والمبين والمفسر)(1)، وأمّا التمييز فاسم نكرة ترفع إبهام جملة أو مفرد ، فالجملة كما في نحو: امتلأ الإناءُ ماءً، فالفعل في جملة (امتلأ الإناء) مطلق الدلالة؛ إذ لا يعرف بم امتلأ الإناء حتي يبين ذلك بلفظ (ماء)، ونحو: زيدٌ حسنٌ وجهًا، فنسبة الحسن لزيد عامة غير محددة حتى تقيد بلفظ (وجهًا)، وقد يسمى تمييز الجملة تمييز الملحوظ أي ما يلاحظ من نسبة بين أركانها، وأما المفرد ففي الأوزان نحو: له رطلٌ زيتًا، فلو اقتصر على الرطل لعرفنا الوزن وجهلنا الموزون، أو في المكاييل نحو: مُدٌّ بُرًّا، أو في الأطوال، نحو: ذراعان حريرًا، أو في الأعداد، نحو: عشرون درهمًا، وقد يسمى تمييز المفرد تمييز ملفوظ، أي لفظ يتضح "بالنص على أحد محتملاته"(2).
وقد أطبق جمهور النحويين على عدّه منصوبًا على التمييز، وربما تكلف بعضهم تأويل انتصابه انتصاب المفعولات، فهذا ابن السراج يعدّ الأسماء التي تنتصب بالتمييز العامل فيها فعل أو معنى فعل، ولكن المفعول الذي هو التمييز المنصوب فاعل في المعنى، وذلك قولك: قد تفقأ زيد شحمًا، وتصبب عرقًا، وطبت بذلك نفسًا، وامتلأ الإِناء ماءً، وضقت به ذرعًا؛ فالشحم هو الذي تفقأ والعرق هو الذي تصبب، والنفس هي التي طابت، والماء هو الذي ملأ الإِناء، والذرع هو الذي ضاق، فلفظ التمييز المنصوب لفظ المفعول، وهو في المعنى فاعل(3). ومثل ابن السراج لما جاء في معنى الفعل، وقام مقامه بنحو قولك: زيد أفرههم عبدًا، وهو أحسنهم وجهًا، وقال: فالفاره في الحقيقة هو العبد، والحسن هو الوجه إلا أن قولك: أفره وأحسن في اللفظ لزيد وفيه ضميره، والعبد غير زيد والوجه إنما هو بعضه إلا أن الحسن في الحقيقة للوجه والفراهة للعبد(4). فتمييز الجملة عنده مفعول في اللفظ وإن كان فاعلًا في المعنى.
وأما تمييز المفرد فلا فعل ولا شبهه يمكن أن يعدّ ناصبًا للفظه نصب المفعولات، ولذلك نجد ابن الوراق يعلل نصبه بالشبه بالمفعولات على نحو متكلف، فذهب إلى أَن التَّمْيِيز إِنَّمَا وَجب أَن ينصب على التَّشْبِيه بالمفعول، لِأَن مَا قبله في تَقْدِير الْفَاعِل على طَرِيق التَّشْبِيه، ففي قولك: عِنْدِي عشرُون درهما، منعت النون الدِّرْهَم من الْجَرّ، كَمَا منع الْفَاعِل المفعول من الرّفْع، فَصَارَت النُّون كالفاعل، وَصَارَ التَّمْيِيز كالمفعول. وهذا في المنون، وأما المركب نحو قَوْلهم: خَمْسَة عشر درهما، فإِنَّمَا انتصب الدِّرْهَم لِأَن التَّنْوِين فِيه المركب مُقَدّر، وَإِنَّمَا حذف التنوين لأجل الْبناء، كَمَا يحذف لمنع الصّرْف، وكل تَنْوِين حذف للإضافة وللألف وَاللَّام، فَحكمه مُرَاد، لِأَنَّهُ لم يدْخل على الْكَلِمَة مَا يُعَاقِبهُ، فَلذَلِك وَجب النصب. وجعل من ذلك التمييز لما هو مضاف إلى الضمير، نحو: لي مثله وزنا، فالهاء منعت (الْوَزْن) من الْجَرّ، فَصَارَت الْهَاء كالفاعل، فَلذَلِك انتصب (الْوَزْن)(5).
ومع محاولة تفسير نصب التمييز بالمفعولية أو شبهها نجد من نصوص النحويين ما يوجهنا إلى تفسير آخر، من ذلك أن من التمييز ما يكون مجرورًا بالحرف (من) أو المضاف، وأن النصب كان لتعذر الجرّ. قال المبرد "وَاعْلَم أَن من التَّمْيِيز مَا يكون خفضا"(6). وقال ابن جنّي "فَلَا بُدّ فِي جَمِيع التَّمْيِيز من معنى (من)"(7)، فنحو: حسبك بِهِ فَارِسًا معناه: من فارس، وَنحو: للَّه دَرك شُجاعًا، معناه: من شُجاع. وقال " وَتقول حبذا رجلَا زيد، أَي من رجلٍ"(8). وقال ابن الصائغ "فتقول: (جاءني ثلاثة عشر رجلًا، وثلاث عشرة امرأة) فـ(الرّجل) منصوبٌ على التّمييز، والأصلُ فيه: أحد عشر من الرّجال"(9).
نفهم من هذا أن النصب ليس هو الأصل في التمييز بل الجرّ هو الأصل، وأنه ظهر في تراكيب محولة عن أصل، وهكذا يحدثنا الزمخشري عن أصل التمييز "واعلم أن هذه المميزات عن آخرها أشياء مزالة عن أصلها" وبيّن أنّ "السبب في هذه الإزالة قصدهم إلى ضرب من المبالغة والتأكيد"(10).
ويبين لنا الزمخشري الحالات التي ينصب فيها تمييز المفرد، فهو لا ينتصب إلا عن تام أي غير مضاف إلى غيره. والذي يتم به أربعة أشياء: التنوين، ونون التثنية، ونون الملحق بجمع السلامة والإضافة.(11).
والدليل على أن التمييز المنصوب في الأصل مضاف إليه امتناع تقديمه على ما يميزه، قال ابن السراج "اعلم: أن الأسماء التي تنتصب انتصاب التمييز لا يجوز أن تقدم على ما عمل فيها، وذلك قولك: (عشرونَ درهمًا) لا يجوزُ: (درهمًا عشرونَ) وكذلك: (له عندي رطلٌ زيتًا)، لا يجوز: (زيتًا رطلٌ) وكذلك إذا قلت: (هو خيرٌ عبدًا) لا يجوز: (هُو عبدًا خَيرٌ)"(12).
والذي نريد الوصول إليه أن التمييز المنصوب لم ينصب لأنه تمييز بل نصب لامتناع جرّ، ولعل هذا ما يستفاد من قول المبرد "وَذَلِكَ قَوْلك: عندي عشرُون درهمًا، وَثَلَاثُونَ ثوبًا ... فَأَما النصب فَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ؛ لِأَن النُّون منعت الْإِضَافَة، كَمَا تمنعها إِذا قلت: هَؤُلَاءِ ضاربون زيدًا، وَلَوْلَا النُّون لأضفت فَقلت: هَؤُلَاءِ ضاربو زيدٍ"(13)، ومن قوله "وَمن ذَلِك قَوْله: مائَة دِرْهَم، وَألف دِرْهَم وَإِنَّما مَعْنَاهُ معنى عشْرين درهمًا، وَلَكِنَّك أضفت إِلَى الْمُمَيِّز؛ لِأَن التَّنْوِين غير لَازم، وَالنُّون في عشْرين لَازِمَة؛ لِأَنَّهَا تثبت في الْوَقْف، وَتثبت مَعَ الْألف واللام"(14).
وننتهي إذن إلى أنّ الأصل في التمييز أن يكون مجرورًا بمن الدالة على الجنس، أو بالمضاف، فإن امتنعا نصب على نزع الخافض.