Thu, Jan 10, 2013
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الرابعة



"ميادة ابنة العراق": قصة حقيقية ترويها امرأة أيضا، هي الصحفية العراقية ميادة نزار العسكري، إذ تنقل جزءا "بسيطا" مما جرى عليها ومعتقلات أخريات رأتهن في الزنزانة 52 في مديرية الأمن العامة، في البلديات، ببغداد. صار هذا الكتاب أحد أبرز وثائق إدانة نظام الوحشية والخوف الذي "أخرس" الجميع في داخل العراق ولربما جزءا في خارجه. ترجم الكتاب الى لغات عدة وظهر بطبعات عدة، منها طبعة مجموعة بنغوين في العام 2004، وتقدمه "العالم" لقرائها في اطار جهد يسهم بقراءة مرحلة ليس الحاضر الذي نعيشه في تفاصيل حياتنا الشخصية والعامة إلاّ نتاجها.

الحلقة الرابعة
غامت الدنيا بعيني ميادة ولم تعد ترى الأشياء في تلك الغرفة، تحولت المقاعد والطاولة وصورة صدام المعلقة والشعارات والأوراق و.. و.. إلى أشكال هلامية مثل أميبيا باتت تنشطر من تلقاء نفسها. كبرت الأميبيا حتى سدت عدسة المجهر وصار المشهد شبحيا، الأصوات الزاعقة خلخلت حواسها.. لا تدري أهي طبول حرب أم أبواق تحذير؟ لم تشعر كم مضى من الوقت لأنها ظلت في دوامة عدم استيعاب أنها المتهمة وبم؟ بالخيانة!
لم تستوعب التهمة ولا المتهمة ولا الاتهام فمكتبها الخاص بالتحضير الطباعي لم يطبع أي منشور ولا تظن بأحد من العاملين والعاملات معها ليفعل ذلك مطلقا، فقد محصتهم الثقة عن تجربة وتماس، وليس منطقيا بل مستحيلا أن يتورط مكتبها بأي مطبوعات تنتقد الحكومة ولو طلب إليها ذلك لرفضت بالتأكيد! أهي مجنونة؟ أم تجهل ماكنة النظام وآلية تعامله مع أي شيء مطبوع أو مهموس به أو مقروء؟!
هي على يقين بأن مثل ذلك الفعل المعارض لن يغيب عن شرطة صدام السرية ووكلائهم، وأن الخوض فيه ليجلب الموت والدمار لرائحة شخص بعلاقة مع المكتب ولو كان جنينا في رحم أمه!
الأشخاص الوحيدون الذين يمارسون هذا الفعل هم أعضاء المعارضة بهدف التحريض لإسقاط صدام ونظامه.
المنشور السياسي، هذه رسالة خطابه أما هي (ميادة بنت نزار بن جعفر بن مصطفى العسكري) كما ردد اسمها ذلك المقدم المتجهم، فلم تفكر حتى في أحلامها بأن تعطس بوجه أي قريب أو مريد أو معجب بالنظام أو حتى بقبعات صدام وريشها وزخارفها!
بل لا تجرؤ أن تبتسم لوحدها وهي تشاهد سيكار صدام أو قبعته الروبن هودية أو ربطة عنق رعاة البقر الأميركيين التي يلبس بين حين وآخر ويحرص التلفاز المحلي (الوحيد) على إظهاره وهو يطلق النار ماسكا أي بندقية في متناوله بيد واحدة كأنه في شهوة دائمة لإطلاق الرصاص أو ليرسخ في ذهن العامة قدرته على الإيقاع بهم وصيدهم وقتلهم بيد واحدة وبأي حالة مزاج يكون عليها.
لقد دربت ميادة حواسها ومشاعرها وحتى آرائها على الانضباط وألا تبوح بمكنونات قلبها وعقلها أبدا.. ربما تطرح الأسئلة لكنها لن تغامر برأي ثمنه رقبتها وها هي الآن أمام مقصلة الكلام الصاخب بالتهديد، ومن يدري.. لعل هذا التهديد ينفذ بعد دقائق، ليس أمام ميادة من طرف آخر لمرادف هذه الكلمة "الخيانة"، سوى كلمة واحدة هي معجم النظام كله: الموت قتلا!
تلك هي المعادلة: الخيانة = الموت. نقطة رأس النهاية إذ لا مزاح بالموت. لا مزاح أبدا.
وهكذا كان عليها الابتعاد عن الشر ولم تغن له ولا لسواه حتى على سبيل المزحة، فالشر يكره الضحك وأشكال المزاح والفرح عادة ومزاجه عكر ودموي دائما. لذا آلت على مهنتها ونفسها أن تتجنب ما يلحق أدنى أذى بحاضرها ومستقبل أبنائها.
لذا شلها الخوف عندها صاح الرجل ذو الشعر الأبيض مرة أخرى مناديا أحدهم:
ـ خذها.. سأحقق معها في ما بعد!
إلى المدى الأقصى ذهب تفكير ميادة بعيدا حيث ولديها.
في نظام صدام حسين، عندما يعتقل فرد من الأسرة تكون الأسرة كلها متهمة.. حتى الأجنة في الأرحام، وغالبا ما أتوا بالأطفال صحبة ذويهم أو قبالتهم ليعذبوهم أمام نظر الأب أو الأم أو الأخ أو الزوج فقط لإجبارهم على "الاعتراف" بشيء لم يفعلوه، وإن فعلوه فإن صبرهم وتحملهم قد يتفتت بهذه الوسيلة.
يراهن الجلادون على ضمير المعتقل ومشاعره في هذه الحالة فقط كي ينهار، أما ضميره الوطني فهو أشد ما يكرهون ويحاربون.
استجمعت ميادة شتات شجاعتها وقالت:
ـ إلى أين سترسلني؟
نظر اليها وصرخ:
ـ إلى التوقيف!
قالت:
ـ أريد إجراء مكالمة هاتفية واحدة..
أضافت:
ـ إن والدتي هي سلوى ساطع الحصري!
توقف الرجل ذو الشعر الأبيض ونظر إليها طويلا كأنه يقيم وضعها، فأردفت:
ـ والدتي واسعة العلاقات كما تعلم وسرعان ما ستضطر أنت للإجابة عن أسئلة ستوجه إليك بخصوصي..
ألقت ميادة بقذيفة اليأس هذه علها تهز كيان هذا القابع أمامها متدرعا بضجيجه العالي وفي داخله يكمن ذلك الجبن المعهود بمثله. وكما في الأفلام المشغلة على السرعة البطيئة أطرق الرجل قليلا وراح يفكر.. ثم رفع سماعة الهاتف من غير كلمة إضافية وناولها لميادة.
بيدين ترتجفان غمرهما شحوب من فقدت دماءها بنزف لا يتوقف، أمسكت بالهاتف وراحت تدير قرصه على رقم منزلها.. رن.. ورن.. ورن.. راحت ميادة تدعو من الله أن تجيبها فيء أو أن يجيبها علي، إلا أن الهاتف شاكسها كما هذا النهار وغباره وأتربته ومجرياته العجائبية. الرنين تواصل هكذا بلا مبالاة قاتلة كأنه في حالاته الاعتيادية جهاز أخرس مثل غيره لا يشعر ولا يرى إلى حجم القلق والتوتر على الطرف الآخر.
ومن دون أن تنظر إلى وجه ذي الشعر الأبيض، قاومت ميادة قلقها وطلبت الرقم مرة أخرى معتقدة أنها في تشوش ذهني قد سبب لها اختلاط السمع بالظن وربما طلبت رقما غير رقم منزلها.. إلا أن الهاتف استمر في الرنين في المحاولة الثانية كأنه لا يأبه لحال ميادة ومآلها ولم يجب أحد أيضا!
وراح الرجل يراقبها مائلا برأسه من جانب لآخر مثل ممثل سيئ في فيلم عربي! ثم خلع عنه دور المساعد وتلبّس دوره الحقيقي الشرير، فانتزع على عجل وبعصبية سماعة الهاتف من يدها، دب في قلبها رعب أكبر من أي رعب شعرت به أيام القصف إبان حربي الخليج، رعب أن يمسك هؤلاء بولديها رهينتين وتعريضهما للتعذيب! وبابتسامة خبيثة أومأ ذو الشعر الأبيض لميادة بمغادرة الغرفة.
فُرض عليها أن تمر ثانية أمام المشهد الدامي للسجناء القابعين بقرفصاء الخوف في ذلك الرواق المبهم. لم تستوعب أنها أضحت الآن مثلهم سجينة.. والأسوأ في هذا كله لا يعلم أحد، لا أحد على الإطلاق، بمكانها هنا.. داخل أقبية الأمن العامة في البلديات.. ومن أين لمخلوق أن يعلم بوجودها موقوفة هنا؟! هذه الأجهزة لا تمن على البشر بأدنى حق لهم وهو توكيل محام أو إشعار ذويهم بمكانهم أو بأي حال يقبعون فذلك من محرمات النظام ومن أساليبه التي يستعذبها بسادية مفرطة في الإيهام والغموض. الداخل غائب إلى أجل غير مسمى.
أخرج الحارسان نظارتين سوداويتين من بنطاليهما ووضعاهما على أنفيهما بحركة مسرحية متشابهة. فشعرت ميادة كأنهما سيخنقانها.
اقتادها الحارسان الأبكمان خارج المبنى يحثانها على السير بسرعة بدفعها من كتفها بين حين وآخر.

ميادة ابنة العراق _ الحلقة الثالثة