نصٌّ من العين للخليل بن أحمد الفراهيدي
جاء في العين 8/ 350:
"وأما لولا فجمعوا فيها بين (لو) و(لا) في معنيين، أحدهما: (لو لم يكن) كقولك: لولا زيدٌ لأكرمتُكَ، معناه: لو لم يكن، والآخر: (هلّا) كقولك: لولا فعلتَ، وقد تدخل (ما) في هذا الحدّ في موضع (لا) كقوله تعالى: الحجر 7 {لوما تأتينا بالملائكة}، أي: هلّا تأتينا، وكلُّ شيء في القرآن فيه (لولا) يفسّر على (هلاّ) غير التي في سورة الصافات (143) {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}" أي: فلو لم يكن"
وفي محاكمة النصّ - لا صاحبه ايًّا كان - مسألتان:
المسألة الأولى: أنّ نحويّا لُغويّا هو الخليل - صاحب العين على رَأْي - ذكر في هذا النصّ عند حديثه عن (لولا) أنّ لها معنيين أحدهما (لو لم يكن)، والثاني (هلاّ)، ثم قال "وكلُّ شيء في القرآن فيه (لولا) يفسّر على (هلاّ) غير التي في سورة الصافات (143) {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ}" أي: فلو لم يكن"(1).
وهذه القولة أراها سقطة أشبه ما تكون بكذبة الأمير التي جرى المثل بوصفها بالبَلْقاء المشهورة؛ لأنها وقعت في كتاب ينمى إلى قارئ نحوي إمام خبير بالعربية لا يشقّ له غبار، إذ إنها لا تصح بأدنى تأمل واستقراء لمواضع لولا في القرآن، فالذي يصل إليه الاستقراء أنّ لولا الامتناعية، أو كما قال الخليل التي بمعنى (لو لم يكن) جاءت في أربعة وثلاثين موضعا، تربط فيها لولا بين جملتين اسميه وفعلية، الاسمية هي الشرط، والفعلية هي الجواب الذي قد يكون محذوفا للعِلْم به كما في بعض الآيات، والجملة الاسمية الأولى تكون من مبتدأ وخبر على أصح الآراء كما أثبتُّه في بحث آخر(2)، والخبر محذوف حسب رأي أكثر النحويين في آيات القرآن كلها، ولكنْ لبعض النحويين رأي آخر وهم قِلّة كابن الشجري وابن مالك.
أما المبتدأ فقد جاء اسما ظاهرا غيرَ مَصْدَر في إحدى عشرة آية من مثل: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} هود:91، وجاء ضميرا منفصلا في آية واحدة: {لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} سبأ:31، ومصدرًا صريحًا في عشر آيات مثل{فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} البقرة:64، ومصدرًا مؤولا من أنّ وصلتها في آية واحدة: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} الصافات:143، ومصدرا مؤولا من أنْ وصلتها في إحدى عشرة آية، مثل: {لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الأعراف:43.
أمّا التي بمعنى (هلاّ) وهي التحضيضيّة كما سمّاها بعضهم فقد جاءت في واحد وأربعين موضعًا، فأين هذا ممّا جاء في العين.
المسألة الثانية: وفي العين(3) أيضا نرى الخليل يجعل لولا الامتناعيه بمعنى (لو لم يكن)، وهذا ما عبَّر عنه النحويون بالامتناع لوجود؛ ففي مثل: لولا زيدٌ لأتيتك؛ المعنى امتنع إتياني لوجود زيد(4)، ولكن قراءة ما يتعلق بجواب لولا في القرآن تنبئ أن لولا تأتي بمعنى آخر، وهو الوجود للوجود، وذلك في آيات مثل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} النور 21، فقد وجد الزُّكُوّ لوجود فضل الله، وهذا المعنى يوجد إذا كانت الجملتان بعد لولا الأولى مثبتة والثانية منفيّة، وتحتمله الآية: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} الفرقان 77، والجواب محذوف وعليه دليل وهو قوله {مَا يَعْبَأُ} استفهاما أكانت (ما) أم نفيا، لأن المعنى: لولا دعاؤكم ما عبأ الله بكم، فهو يعبأ بهم لدعائهم، وتأمل آية الأعراف 43، {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}، ذهب بعضهم(5) إلى تقدم جواب لولا وهو {ما كنا لنهتدي}، وبعضهم قدره بعد لولا والدليل عليه جملة (ما كنا لنهتدي)، فهاتان جملتان مثبتة ومنفية بعد لولا، والمعنى وجود لوجود، والتقدير: (لولا أن هدانا الله ما كنا لنهتدي)(6).
أما آية القصص 47، { وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فقد ذكر أبو حيان(7) اختلاف تقدير الزجاج للجواب عن تقدير ابن عطيّة، وعلى هذا اختلف معنى لولا، فقد قدر الزجّاج الجواب: (ما أرسلنا رسولا) فتكون لولا حرف وجود لوجود، وقدره ابن عطية: (لعاجلناهم بما يستحقونه) فتكون لولا حرف امتناع لوجود أو لوجوب، كما هي عبارة بعضهم(8).
علما أن المعنى الأوّل الذي ذكر الخليل هو الكثير في القرآن، والمعنيان أدركهما سيبويه عندما قال: "وكذلك (لوما ولولا) فهما لابتداء وجواب، فالأوّل سبب ما وقع وما لم يقع(9)"
وتصل معانيها إلى أربعة معان عند أحد النحويين وهو المالقي (702) وهي: الامتناع لوجوب، والوجوب لامتناع، والوجوب لوجوب، والامتناع لامتناع، قال: "والصحيح أنّ تفسيرها بحسب الجمل التي تدخل عليها، فإن كانت الجملتان بعدها موجبتين، فهي حرف امتناع لوجوب، نحو قولك: لولا زيد لأحسنت إليك، فالإحسان امتنع لوجود زيد، وإن كانتا منفيّتين، فهي حرف وجوب لامتناع، نحو: لولا عدم قيام زيد لم أحسن إليك، [فالإحسان وقع لانتفاء القيام]، وإن كانتا موجبة ومنفيّة، فهي حرف وجوب لوجوب، نحو: لولا زيد لم أحسن إليك، [فالإحسان وقع لوجود زيدٍ] وإن كانتا منفيّة وموجبة، فهي حرف امتناع لامتناع، نحو: لولا عدم زيد لأحسنت إليك، [فالإحسان ممتنع لامتناع زيد]"(10)
وربّما كان ما ذكره نتيجة قسمة عقلية، إذ لم يستشهد لهذه المعاني من اللغة، ويحتاج الأمر إلى استقراء لأسلوب لولا الامتناعية في غير القرآن؛ إذ قد عرفنا ما فيه من معاني لولا، ويلحظ أنّ المالقيّ اصطفى كلمة الوجوب بدلا من الوجودٍ.
الحواشي:
1. العين: 8/350
2. الاسم المرفوع بعد لولا الامتناعية، ص 87
3. العين 8/350
4. انظر مثلاً: الأمالي الشجرية: 2/ 76، والمقتصد: 218، وشرح المفصل: 8/ 145
5. أبو حيان في النهر المادّ: 4/299
6. انظر التبيان للعكبري: 1/569، والبحر: 4/299
7. البحر: 7/ 123
8. تقديرا الزجاج وابن عطية ليسا على ما ذكره أبو حيان رحمهم الله جميعا، ففي معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 4/ 147، قال: "أي لولا ذلك لم يحتج إلى إرسال الرُّسل، ومواترة الحجج" وفي المحرر الوجيز لابن عطية 6/ 596 قال: "جواب لولا محذوف، تقديره: لما أرسلنا الرسل"، وهما تقديران متقاربان جدًا، وتكون لولا على التقديرين حرفَ وجود لوجود.
9. الكتاب: 4/235
10. رصف المباني: 293، وما بين المعقوفين زيادة للتوضيح.
*هذا البحيث مستلّ (بتصرف) من بحث بعنوان لي بعنوان: تأملات في جوانب من منهج النحاة مع وقفات معهم في مسائل من لولا، نشرته مجلة الآداب واللغات، كلية الآداب واللغات، جامعة البليدة، الجزائر، العدد 13 ربيع الأول 1437، ديسمبر 2015
المصادر والمراجع
1. الاسم المرفوع بعد لولا الامتناعية، لسعد حمدان الغامدي، طبعة خاصة، القاهرة 1993
2. أمالي ابن الشجري ت 542هـ دار المعرفة – بيروت – تصوير طبعة الهند.
3. البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (682 – 749)، تصوير عام 1403، دار الفكر.
4. التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري 616هـ، تحقيق علي محمد البجاوي، طبع عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
5. الجنى الداني في حروف المعاني لحسن بن قاسم المرادي المتوفى 749هـ، تحقيق/ طه محسن، بغداد، 1396هـ
6. رصف المباني في شرح حروف المعاني لأحمد بن عبد النور المالقي (702) تحقيق: أحمد محمد الخرّاط، مجمع اللغة العربية بدمشق 1395هـ
7. شرح المفصل لابن يعيش ت 643 – تصوير عالم الكتب، بيروت.
8. العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي (100- 170) حققه: مهدي المخزوميّ، وإبراهيم السامرائيّ.
9. الكتاب، لسيبويه ت180هـ تحقيق/ عبدالسلام هارون-عالم الكتب-بيروت، ط3، 1403هـ.
10. المحرر الوجيز لابن عطيّة الأندلسيّ، حققه: الرحالة فاروق، وآخرون، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، ط2، قطر.
11. معاني القرآن وإعرابه للزجاج ت 311هـ، شرح وتعليق د عبد الجليل الشلبي، ط1، عالم الكتب، بيروت.
12. المقتصد في شرح إيضاح الفارسيّ، لعبد القاهر الجرجانيّ ت 471هـ حققه/ د كاظم بحر المرجان، دار الرشيد، بغداد 1982.
13. النهر المادّ من البحر لأبي حيان الأندلسيّ بهامش البحر المحيط المذكور آنفًا.