TODAY - October 07, 2010
دماء وانقلابات وحِيَّلْ ودسائس حول مقعد الزعامة
كرسي الحكم خشب يصنعه نجار ويتربع عليه زعيم
عدنان أبوزيد
لم يخطر على بال كثيرين كيف يصنع كرسي الحكم، ومن يصنعه، وهل يتدخل الملك والرئيس أو الأمير بصناعة واختيار كرسيه الذي يجلس عليه أم يترك الأمر لنجاريه ومستشاريه، وإذا كان كرسي الحكم كما يرد في الأخبار والمقالات والأفكار تعبير مجازي للإشارة الى مركز القرار ورأس السلطة، فهو أيضا كيان مادي ماثل للعيان له أربعة أرجل ويدان ومسند، ومهما اختلفت إشكاله وتنوعت الوانه وتعددت مواد صناعته لكنه يبقى المكان الأرفع والبقعة الأسمى، والكيان الأقوى في العالم، وهو الأكثر سرية وآمنا من أي مكان آخر، تحرسه الدبابات والطائرات وخطوط حماية سرية وعلنية.
وعلى رغم اننا نجلس يوميا على الكراسي، لكننا لم نفكر يوما في طريقة صنعها وكيف وقع اختيارنا على هذا الكرسي دون ذاك، ذلك أن كراسينا عادية ومتشابهة، وليست ذي أهمية سياسية وعسكرية، أما كراسي الملوك والزعماء فلها شأن آخر..
وغالبا ما يختار المستشارون كرسي الملك والزعيم بعد استشارته لتامين الكرسي المثالي الذي سيجلس عليه، وهو المقعد الوحيد في العالم الذي لا يجلس عليه غير صاحبه طالما ظل على قيد الحياة.
لا زعيم من دون كرسي
الملفت للنظر في معرض الكراسي الذي يقام سنويا في مدينة ايندهوفن الهولندية في مثل هذا الوقت، ان الكرسي لا يقل شانا عن المواد "الحية" الأخرى، فهو ينمو ويتطور مثلما الانسان والنبات، كما ان له تصانيف عجيبة، واسماء غريبة ارتبطت بأحداث تاريخية ونقاط مفصلية في التاريخ.
وللملوك والزعماء كراسي أعلى شأناَ من كراسي العامة، من ناحية التصميم والجودة، وذا كان الانسان العادي يستطيع العيش بلا كرسي فان الزعماء لا يمكنهم ذلك، ولحظة فقد الكرسي بالنسبة لكثيرين منهم هي نهاية الحياة او نهاية زمن العزة.
والمعرض الذي نتكلم عنه يستعرض تاريخ الكرسي عبر حقب مختلفة، ويحمل عنوان " الكرسي.. على قدر المركز".. وربما يرادفه في العربية قول المتنبي " على قدر أهل العزم تأتي العزائم "، ولعله عنوان يصلح كحكمة تعلق على جداريات العالم الثالث حيث الكرسي يدل على صاحبه وهو لصيقه الى لحظة الموت، وربما يخلفه ابنه في الجلوس عليه.
ومهما سعينا الى فلسفة الامر فهو واضح لا يحتمل التأويل، فكرسي الحكم له سحر و بريق.. من يجلس عليه مرة.. لا يتركه إلا مضطراً وحوله دارت دسائس ونشبت معارك.. وفي ذات الوقت.. اتخذت منه قرارات حرب ومعاهدات سلام، وفيه دائما القول الفصل.
النجار الحاذق
وفي عالمنا اليوم، وعلى رغم التطور الهائل في تقنيات التشكيل والتصميم الالكترونية، يظل الكرسي المصنوع بيد النجار هو الاغلى ثمنا والأعلى مرتبة من الكراسي التي تصنعها المكائن والتقنيات الحديثة.
يقول هنك فان اوتردايك المشرف على معرض الكراسي في ايندهوفن ان هناك شركات مهمة تشترك في المعرض ومنها شركات تصنع اثاثا للملوك والأمراء والرؤساء، وتصدر منها الى العالم الثالث كما أن العوائل المالكة الأوربية والقصور الرئاسية ترسل وفودها الى المعرض لشراء ما يلزم.
ويرى.. أن زعماء العالم الثالث ودول افريقية وآسيوية غالبا ما تطلب كتالوجا لاختيار ما يلزم، وفي أحيان كثيرة تطلب اثاثا بمواصفات خاصة، تكون أثمانها باهضة الثمن.
الكرسي ... هوية
واذا القينا نظرة على كراسي الملوك والرؤساء العرب نرى انها في غالب الاحيان تكتسب طابع البلد وأسلوبه في الصناعة والزخرفة.
وللرؤساء و الملوك العرب ذوقا رفيعا في اختيار كراسيهم التي يجلسون عليها وهي ليست بالضرورة مصنوعة في الخارج بل في أحايين كثيرة يصنعها نجار محلي حاذق بعد توفير ما يلزم من مواد أولية، وتضم اغلب بيوت الرئاسة والملكية العربية ورشة خاصة للنجارة لتامين احتياجات القصر مما يلزم.
المغرب.. كرسي ذهبي
يجلس العاهل المغربي الملك محمد السادس على كرسي ملكي رسمي، ذي مسندين عاليين، ووسادة حمراء مزركشة بالنقوش المغربية، يحيطها إطار ذهبي مرصع بأكاليل، وفي الظهر خلفية عالية يتوسطها شعار المملكة المغربية وهي النجمة الخماسية، وأسدين واثبين من حولها.
والبيوت الملكية المغربية تضم بين جنباتها اثاثا ومقتنيات مستمدة من تاريخ الفنون المغربية. وفي الأعياد والخطب الرسمية يجلس العاهل المغربي على كرسي ذهبي وعلى جانبيه علمان مغربيان، في قاعة تزينها النقوش المغربية والأندلسية الجميلة.
كرس لا تجلس عليه الشياطين
وتربع أسيديو آدو دانكوا الثالث ملك قبائل الأكروبويج في غانا على كرسي من الذهب الخالص حيث يعلو منصة من الخشب مرتديا لباس غانا التقليدي ويحرسه مرافق يحمل صولجانا من الذهب الخالص.
ويعد الكرسي في غانا مقدسا تسفك دونه دماء القرابين والضحايا، وفي الليل عند غياب الملك عنه توضع على مقعده تعويذه تمنع جلوس الشياطين عليه، وكأن الملك في هذا لا يسمح حتى للشياطين بأخذ مكانه.
العرش والكرسي
وصنع عرش توت عنخ آمون من الخشب المغشي بالذهب والفضة، والمزخرف بأحجار شبه كريمة والزجاج الملون.
وعلى ظهر الكرسي البديع رسمت الملكة وهي تدهن الملك بالعطر، على حين يرسل قرص الشمس آتون أشعته نحو الزوجين الملكيين، كما طعمت أجسام الملك والملكة بالزجاج الملون، وتتمتع المقدمة من ذراعي العرش بحماية أسدين، على حين شكل الباقي في هيئة ثعبانين مجنحين، متوجين بالتاج المزدوج، حيث يحميان اسم الملك.
وقد زود العرش بمسند للأقدام من الخشب، محفور عليه صور رمزية لأعداء مصر الشماليين والجنوبيين، والمعروفين باسم الأقواس التسعة، وهم مربوطين وممددين على الأرض في إذلال، أما الطيور المصورة، المعروفة باسم رخيت، فتشير إلى عامة الشعب.
وفي القران الكريم ورد الكرسي بمعنى انه موضع قدمي الرحمن، والعرش أكبر من الكرسي.
والعرش هو أعظم المخلوقات، وعليه استوى الله استواءً يليق بجلاله، وله قوائم، ويحمله حملة من الملائكة عظام الخلق.
ويقول ابن مسعود: بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام،وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام،وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء،والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
وأما الكرسي فورد في القران : وسع كرسيه السموات والأرض [ البقرة / 255 ]
قال أبو ذر: سمعت رسول الله يقول :" ما الكرسي في العرش إلا كحلْقة من حديد أُلقيت بين ظهري فلاة من الأرض.
فاروق والعرش
.
وكان الملك فاروق ملك مصر ( 1936 - 1952 ) صاحب ذوق رفيع في اختيار ديكور غرفته الملكية حيث طعمت جدران الغرفة بخطوط الذهب والخلفية البيضاء المطلية بفسيفساء مصرية,وكرسي الملك فاروق الخاص يتكون من مقعد من دون مساند، وإطاره مطلي بالذهب ومصنوع من أجود انواع الخشب الايطالي.
وكان الكرسي الملكي الرسمي يتألف من مسند يعلو الرأس وفوقه كرة تمثل التاج الملكي المصري، وكان فاروق أُجبر على التنازل عن عرشه على يد ما عرف بحركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 فيما عرف لدى البعض بثورة يوليو 1952 لما تبعها من تغيرات اجتماعية و سياسية و يراها البعض انقلاباً عسكرياً لسيطرة الجيش على الحركة و السلطة.
ويربط الكاتب الأمريكي وليم ستادين في كتابه (فاروق ملك مصر.. حياة لاهية وموت مأساوي) بين الكرسي والحالة النفسية التي كان يعاني منها الملك فاروق، فكتب يقول : ان إحساس الملك باهتزاز كرسي العرش الذي يجلس عليه، هو الذي أدخل التشاؤم إلي نفسه وجعله غير متفائل بما سوف يأتي به الغد.
أما الرئيس حسني مبارك فغالبا ما يجلس على كرسي صغير الحجم وبجانبه كرسي مماثل يجلس عليه الضيف، وتحيط بالرئيس المصري في مكتب الاستقبال خريطة كبيرة لمصر.
الأسد.. الكرسي الشامي
وغالبا ما يجلس الرئيس السوري بشار الأسد في قاعة تحتوي كرسيين عريضيين من صنع نجاري الشام حيث النقوش الشامية المطعمة بذوق اندلسي، وكرسي بشار الأسد هذا عبارة عن كتلة خشبية خالصة بشكل حرف ( L ) الانكليزي.
والى جانب الكرسي، منضدة اسطوانية مزخرفة باتقان تعكس جمالية الفن الزخرفي الشامي، وغاليا ما يصنع الشاميون هذه الكراسي بإتقان كبير من قطعة واحدة - درفة واحدة - وغالبا ما يكون خشبا مغلفا بالزنك.
عرش صدام
وكان الرئيس العراقي السابق صدام حسين في سنوات حكمه الأخيرة خلال استقباله قادة جيشه يجلس على دكة هي اقرب ما تكون إلى عرش صغير منها إلى كرسي.
وخلف المقعد انتصبت لوحة شبه بيضوية، يحتضنها سيفان وفي قمتها القران الكريم وعلى جانبيها كتب : نصر من الله وفتح من قريب.
وكانت وسائل الاعلام نشرت صورة جندي امريكي يتربع على عرش صدام لحظة دخول القوات الأميركية قصره.
وبعد سقوط صدام العام 2003 اكدت مصادر عراقية العثور على "عرش ذهبي" كان صدام حسين يجلس عليه، وذلك عقب تقرير أوردته صحيفة بريطانية قال إن الجيش كَرَّمَ جنديا هو أول من دخل قصور صدام وجلس على عرشه المطعم بالذهب العام 2003،
وكان ذلك الجندي هو الرقيب مارك أسليت.
وأحب صدام الجلوس على كرسي من هذا النوع تقليدا لزعماء تاريخيين مثل نبوخذ نصر، وابو جعفر المنصور مؤسس بغداد، وصلاح الدين الأيوبي الذي فتح القدس.
بوش..كرسي البيت الابيض
ويستقبل رؤساء أميركا ضيوفهم في قاعة تحتوي كرسيين مصممين على الطريقة الأوربية، على ان مكتب الرئيس في البيت الأبيض يتألف من منضدة فخمة وكرسي مكتب مرتفع الظهر، من الطراز الحديث، وغالبا ما يضع رؤساء أميركا صور عائلاتهم على سطح المكتب.
كرسي محمود عباس
وجلس افراد حماس على كرسي الرئيس الفلسطيني محمود عباس بعد اقتحام مكتبه في غزة عام 2007 وكان مكتبه عبارة عن منضدة حديثة من الخشب وكرسي مكتبي من الجلد الأسود.
الملكية السعودية والكرسي
وكراسي الملكية السعودية غالبا ما تكون مصممة على طراز عربي إسلامي من الخشب المدهون بالدملوك الجوزي والألوان الذهبية، حيث تكمل في ألوانها تناسق القاعات الملكية المغلفة بالخشب المزركش والخطوط الذهبية.
واعتاد العاهل السعودي الجلوس على كرسي منخفض الى الارض وخلفة صورة مؤسس المملكة الملك عبد العزيز ال سعود وعلى يمينه العلم السعودي.
أما العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، فغالبا ما يستخدم كرسيا ذهبيا صغيرا يجلس عليه في المناسبات الرسمية ويعلو الكرسي التاج الملكي الأردني المطلي بالذهب.
الملوك الغابرين
وتعج متاحف أوربا بكراسي ملوكها الغابرين، ويمكنك للمرء ملاحظة الترف الواضح على هيئة الكرسي من ناحية نوعية الخشب المصنوع منه والقماش المغطى به، وتزيينه بالجواهر وطليه بماء الذهب، ولاغرو في ذلك فقد كان للكرسي دوره في صناعة التاريخ الأوربي عبر ملكيات لم تفقد بريقها إلى الآن مثل الملكيات الهولندية والبلجيكية.
و من أعجب الكراسي ذلك الذي صممه " البرلين فابيان" ونصب في حدائق أوربية، اذا أردت الجلوس عليها والترفيه عن نفسك في أي من الحدائق التي يوجد فيها مثل هذه المقاعد فيتوجب عليك أن تدفع "نصف يورو" لكي تنسحب المسامير إلي أسفل، و إذا جلست على المقعد أكثر من المدة المطلوبة، فاحذر لأن المسامير سوف ترتفع إلى الأعلى،وفي هذه دلالة على ان الكرسي لن يكون ملكا لواحد فقط.
الشاه وحكام ايران الجدد
وبدت مفارقة الكرسي واضحة في إيران بين عهدين، فبينما كان الشاه يظهر عظمته عبر الكرسي المهيب الذي يجلس عليه والمرصع بالجواهر والأحجار الكريمة حتى غدا رمزا لترف الشاهنشاهية الفارسية، فان مؤسس الجمهورية الاسلامية اية الله الخميني، عزف عن الجلوس على كرسي، وكان يجلس القرفصاء على الارض، وقلده في ذلك خلفاءه من حكام إيران.
كيف يصنع كرسي الحكم، ومن يصنعه، وهل يتدخل الملك والرئيس أو الأمير بصناعة واختيار كرسيه الذي يجلس عليه أم يترك الأمر لنجاريه ومستشاريه؟ وعلى رغم اننا نجلس يوميا على الكراسي، لكننا لم نفكر يوما في طريقة صنعها وكيف وقع اختيارنا على هذا الكرسي دون ذاك، ذلك أن كراسينا عادية ومتشابهة، وليست ذي أهمية سياسية وعسكرية، أما كراسي الملوك والزعماء فلها شأن آخر.