في سلسلة محاكمة النصوص
2- نص من الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس:
قال ابنُ فارس في باب القول في اختلاف لغات العرب:
"ومنها: الاختلاف فِي الإعراب نحو: مَا زيدٌ قائماً، ومَا زيدٌ قائم، وإنّ هذين، و{إنَّ هَذَانِ} [طه 63، قراءة المدنيين والكوفيين]، وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب، يقولون في كُلّ ياء ساكنة انفتح مَا قبلها - ذَلِكَ. وينشدون:
تزوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذْنَـاهُ ضَرْبةً = دَعَتْهُ إِلَى هَابِي التُّرَابِ عَقِيْمِ
وذهب بعض أهل العلم إِلَى أنّ الإعراب يقتضي أن يقال: إِنّ هذانِ، قال: وذلك أنّ "هَذَا" اسم مَنْهُوك، ونُهْكُهُ أنّه عَلَى حرفين: أحدهما حرفُ عِلّة، وهي الألف، و"ها" كلمةُ تَنْبيهٍ ليست من الاسم فِي شيء، فَلَمّا ثُنِّي احتيج إِلى ألفِ التثنيةِ، فلم يُوْصَل إليها لسكون الألف الأصلية، واحتيج إِلى حذف إحداهما، فقالوا: إِنْ حذَفنا الألف الأصلية بقي الاسم عَلَى حرف واحد، وإن أسقطنا ألِفَ التثنية كَانَ فِي النُّونِ منها عِوَضٌ ودَلَالة على معنى التّثْنِيةِ، فحذفوا ألف التثنية.
فلما كَانَتْ الألفُ الباقيةُ هي ألفَ الاسم، واحتاجوا إِلى إعراب التثنية - لَمْ يُغَيّروا الألف عن صُوْرتِهَا لِأَنّ الإعرابَ واختلافَه فِي التثنية والجمع؛ إنّما يقع على الحرف الَّذِي هو علامة التثنية والجمع، فتركوها على حالها فِي النّصْب والخَفْض.
قال: ومما يدلّ عَلَى هَذَا المذهب قوله جلّ ثناؤه: { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} لَمْ تحذف النون - وَقَدْ أضيف - لأنّه لو حُذِفت النونُ لذهب معنى التثنية أصلاً، لأنه لَمْ تكن للتثنية هاهنا علامة إِلاَّ النونُ وحدها، فإذا حُذِفَتْ أشبهتْ الواحِدَ لِذَهابِ علامةِ التّثْنِيَة".
انتهى كلام ابن فارس - رحمه الله - في هذه المسألة، والذي آخذه على النصّ أَمْرَانِ:
أَوّلًا: أنّ ابنَ فارس نقَل الرأيَ الثاني - بِعُجَرِه وبُجَرِه – دون مناقشة منه: وهذا الرأي يتلخص في أنّ سببَ عدمِ نصبِ هذين بالياء كما هو شأن المثنّي إنما كان؛ لأنّ الألفَ هي ألفُ "ذا" وليست ألف الاثنين التي تنقلب ياء في النّصب والجرّ.
ثانيًا: أورد دليلًا لهم مِنْ كَلامِهم - على ما يبدو - مُصَدِّرًا له بِـ "قال"؛ زاعمًا هذا المُسْتَدِلّ أنّ نُوْنَ التثنية في قوله تعالى: {فَذَانِكَ} لم تُحذفْ لِإِضافةِ (ذَانِ) إلى الكاف؛ لتبقى دليلا على التثنية بعد أنْ حُذِفَتْ ألفُ الاثنين حِفاظًا على ألف "ذا".
وهذا الرأي ودليلُه يَرِدُ عليهما ما يأتي:
1- أن إلزامَ المثنّي الألفَ في أحواله الثلاثة ليس خاصًّا بلفظ (ذانِ) ولا (تانِ)، بل هو عامٌّ في المثنى؛ فأصحاب هذه اللغة يقولون: جاء الرجلان الاثنان كلاهما، ورأيت الرجلان الاثنان كلاهما، ومررت بالمرأتان الاثنتان كلتاهما.
2- أنّ الكافَ ليست ضميرَ المخاطب الاسم في (ذانك)، بل هي حرفُ خطابٍ لا محلّ له من الإعراب، وهي التي تلحقُ أسماءَ الإشارة (ذاك، وذلك، وتلك، وذانك، وتانك، وأولئك، وهناك، وهنالك، وجاءت – على رأي - في الضمير إياك وفروعها، ومثلها الهاء في إيّاه)، وإلحاقها بأسماء الإشارة ليس من الإضافة، ولذا لم تحذف النون.
3- ومعلومٌ أنّ الحروفَ لا تُضاف ولا يُضاف إليها.
4- لو زعَم زاعمٌ أنّ المقصودَ بالإضافة في كلامهم مجردُ إسنادِ لفظٍ إلى لفظ، لا الإضافة المصطلح عليها التي تقتضي جرَّ الأوّل للثّاني. لَوَرَدَ عليه أنّ مِثْلَ هذه الإضافة لا تُحذف معها نونُ المثنّى.
5- أنّ أسماءَ الإشارةِ كُلِّها، والضمائرَ كلَّها، والأسماءَ الموصولة عدا أيٍّ، وكذلك أسماء الشرط والاستفهام عدا أيّ أيضًا، لا تقع مضافة وتأتي مضافًا إليها، وأما أسماء الأفعال فلا تُضاف ولا يُضاف إليها، جاء في خزانة الأدب عند الشاهد: 456، ج 6/ 214 "أسماء الفعل لا تضاف، ولا يدخل عليها عوامل الأسماء"، وقبله في الصفحة نفسها قال: "قال أبو علي في إيضاح الشعر: قال سيبويه: أما بله زيدٍ فـ "بله" هنا بمنزلة المصدر، كما تقول: ضَرْبَ زيدٍ، فَمَنْ قال: بَلْهَ زيدٍ، جعله مصدراً. ولا يجوزُ أنْ تُضِيفَ ويكون مع الإضافة اسمَ الفعل، لأنّ هذه الأسماءَ التي يسمى بها الأفعال لا تُضاف. ألا ترى أنه قال[يعني سيبويه انظر الكتاب 1/ من 243 - 248]: جعلوها بمنزلة النَّجاءَك، أي: لم يضيفوها إلى المفعول به، كما أضافوا أسماء الفاعلين والمصادر إليه. فهي في قوله على ضربين: مَرّةً تجرى مجرى الأسماء التي تُسَمّى بها الأفعالُ، ومَرّةً تكون مصدراً".
6- وحديث كاف الخطاب الحرفية هذه جاء في كلام العلماء مفصّلًا ومختصرًا، انظر مثلا: الكتاب 1/ من 243 – 248، ورصف المباني 206 – 208، والجنى الداني 94، 95، ومغني اللبيب 3/ 27 – 30، ويتبين منه أنها لا محلّ لها من الإعراب لأنها حرف، وأنها تَلحَقُ اسمَ الإشارَةِ للبَعيدِ، وتَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ كافِ الضَّميرِ الاسمِيَّةِ غَالِباً، فَتُفتَحُ للمُخاطَبِ وتُكسَرُ للمُخَاطَبَةِ، وتَتَّصِلُ بها عَلاَمَةُ التَّثنِيَةِ والجمع فتقول: ذَاكَ، وذَاكِ، وذَاكُمَا، وذَاكُمْ، وذَاكُنَّ، قال سيبويه في الكتاب 1/ 245: "ويَنْبَغِي لِمَنْ زعم أنَّهنّ [يقصد الكافات في رويدك، وحيَّهلك، والنجاءك، وهاءَك، وهأْك] أسماءٌ أَنْ يزعُمَ أنّ كافَ "ذاك" اسمٌ؛ فإِذا قال ذلك لم يكن له بدٌّ من أنْ يزعُمَ أنّها مجرورة أو منصوبة فإن كانت منصوبةً انبغى له أن يقول: ذاك نفسَك زيدٌ، إذا أراد الكاف، وينبغي له أن يقول إن كانت مجرورة: ذاك نفْسِك زيدٌ، وينبغي له أن يقول إنّ تاءَ "أنتَ" اسمٌ وإنَّما تاء أنتَ بمنزلة الكاف".
وتَلحَقُ أيضاً: الضمِيرَ المُنفَصِلَ المنصوبَ في قَولِهم: "إيّاكَ، إيّاكِ، إيّاكُمَا، إيّاكُمْ، إيّاكُنَّ"، وكذلك بَعضَ أسماءِ الأفعالِ نحو "حَيْهَلَك" و "رُوَيْدَك" وتَلحَق: "أرَأيتَ" بمعنى أخبرنِي نحو: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيْلًا}، وتَلحَقُ بعض الأفعال وهي : أبصر، وليس، ونعم، وبئس، نحو: ابْصِرْك زيداً، ولَيْسَك زيدٌ قائماً، ونِعْمَكَ الرجلُ زيدٌ ، وبِئْسَكَ الرجلُ عَمْرٌو.
وتلحق هاء في "هاءك" ممدودةً ومقصورة، بمعنى خُذْ، وبعد "ها"؛ لأنّ مفعولها يأتي بعد ذلك فتقول: هاك درهمًا، ولا تحتاج إلى مفعولين، وإنما تتعدى إلى واحدٍ لا غير.
وتلحق بعض الحروف، وذلك بلى وكلّا. يقال: بَلَاكَ، وكَلَّاكَ. وهو قليل.
المصادر:
- الجنى الداني من حروف المعاني للحسن بن قاسم المرادي 749هـ، تح فخر الدين قباوة، ومحمد نديم فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت.
- رصف المباني في شرح حروف المعاني لأحمد بن عبد النور المالقي 702هـ، تح: أحمد محمد الخراط، مجمع اللغة الدمشقيّ.
- الصاحبي في فقه اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا 395هـ، تح: السيد أحمد صقر، مطابع عيسى البابي الحلبي القاهرة.
- الكتاب لسيبويه أبي بشر عمروبن عثمان بن قنبر 180هـ، تح: عبد السلام هارون، ط 3، عالم الكتب 1430هـ.
- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام الأنصاري، 761هـ، تح: عبد اللطيف الخطيب، ط 1، الكويت 1421هـ، 2000م