ما أشد ضراوة تلك الحروب والحملات الصليبية التي شنها الغرب على الإسلام والمسلمين، فبينما كان المسلمون على أرض الأندلس يخوضون حربًا لا هوادة فيها، كان إخوانهم في المغرب العربي - الإسلامي وفي جزائر البحر الأبيض المتوسط- ينازعون الفرنج الصليبيين ويقاتلونهم على كل شبر، فيما كان المسلمون في بلاد الشام يجابهون الفرنج الذين جاؤوا من كل فج عميق، وكلهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم.

ونهض المسلمون في كل مكان وقد عرفوا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون. وما كان عليهم إلا أن ينصروا الله حتى يتم الله وعده وينصر عباده وصدق المسلمون ما عاهدوا الله عليه، فصدقهم الله وعده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.

لقد تداعت الدنيا على المسلمين، وضاقت على المسلمين بما رحبت، وفي وسط ظلمة الليل القاتمة، حيث زلزلت الأرض زلزالها، وأذهل الروع كل ذات حمل عن حملها، ما وهن المسلمون وما ضعفوا، ما اهتز منهم اليقين، ولا ضاع منهم الحجى، ولا ذهب عنهم الادراك والوعي، وكان ذلك من أروع ما أبرزته التجربة التاريخية للحروب الصليبية القديمة.

فعندما وصلت حملت الفرنج الصليبيين إلى دمياط، ظن الناس من المسلمين وغير المسلمين، أن الدنيا قد مادت بهم أو كادت، ووصلت القلوب إلى الحناجر، فماذا سيكون من أمر المسلمين وقد أوشك الفرنج على امتلاك مصر، فيما كانت حشود المغول التتار تدق بعنف أبواب العراق بعد أن اجتاحت كل أقاليم المشرق العربي- الإسلامي.

وأشرقتْ ظلمة الليل بانتصار المسلمين في المنصورة وانزاح الهم عن صدور المسلمين، ومرة أخرى أدلهمت ظلمة الليل، فقد اجتاح المغول التتار عاصمة الإسلام والمسلمين -بغداد-، وأزالوا الخلافة أساس وحدة الطاعة والجماعة، ومضوا في زحفهم الظافر فاجتاحوا بلاد الشام، ودقوا أبواب مصر بقوة وعنف، وكان أمرًا غريبًا أن يقدم المظفر قطز على شنق رسل هولاكو الذين جاؤوا وهم يتوقعون استلام وثيقة استسلام مصر، فأي قوة هذه التي اعتمدها قطز وهو يرفض التحدي الذي فرضه عليه المغول التتار؟ إنها قوة الإيمان لا أكثر ولا أقل، وبروح الإيمان هذه قاد قطز جيشه إلى فلسطين، وتبددت الظلمة مرة أخرى، وأشرق الضوء الباهر من عين جالوت فأعاد لدينا المسلمين بهجتها وصفاءها.

لم تكن الحملات الصليبية التي عرفها المسلمون في بلاد الشام إلا فصلًا محددًا من فصول الصراع المرير الذي خاضه المسلمون في تلك الحقبة التاريخية، فبينما كان المسلمون في الشام يمارسون تجاربهم القتالية من الفرنج الصليبيين، كان إخوانهم في أقصى المشرق يمارسون تجارب مماثلة مع المغول التتار، ومع بلاد الهند، حيث استمر الصراع عشرات السنين، قبل أن يتمكن المغول من الوصول إلى بلاد العراق والشام، ولم تكن فصول هذا الصراع أقل عنفًا ولا أقل إثارة من تلك التي عرفها الفرنج في بلاد الشام.

ومن أقصى الشمال انحدر الكرج في حملات سنوية أو دورية منظمة للإغارة على بلاد المسلمين في بلاد فارس، وفي أذربيجان، وفي أي بلاد تصله قواتهم، وكان على المسلمين هناك أن يخوضوا حربًا ضارية ضد الغزو والأعمال العدوانية المتكررة، هكذا انشغل كل إقليم من أقاليم المسلمين بهمومه وبمتاعبه وبمشكلاته، وحمل المسلمون السلاح في كل مكان ضد من يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وبأيديهم وبسلاحهم، وبكل ما يستطيعون حشده من أجهزة القتل والإبادة.

وكأن كل مسلم حقًا أقوى من كل قوى الشر والعدوان، فانتصر في كل مكان، وكان كل نصر على أي جبهة من الجبهات هو انتصار لكافة المسلمين في كل مكان، ولعل أكبر انتصار حققه المسلمون هو انتصارهم على الباطنية أو الإسماعيلية أعداء الداخل الذين شكلوا أعظم ابتلاء على أمة المسلمين وشعوبها المختلفة، فقد أفادوا من انصراف المسلمين لقتال أعداء الخارج، وأشهروا سيوفهم في ظهور المسلمين، ووجهوا حقدهم الدفين ضد شيوخ الإسلام السُنَّة وعلمائهم وأمرائهم وقادتهم، وقتلوا خيار المسلمين غدرًا.

فكيف استطاعت الأمة الإسلامية أن تنتصر على أعداء الداخل وأعداء الخارج؟، وكيف استطاع المسلمون على ذاتهم وعلى أعداء الخارج؟، وكيف استطاع المسلمون تجاوز نقاط ضعفهم، والإفادة من مواقع قوتهم؟، ذلك ليس سرهم، وإنما هو سر الإسلام العظيم، الذي انتصر به المسلمون على أنفسهم، وعلى أعدائهم، فنصرهم الله على ذواتهم وأعدائهم.

لم يكن طريق الانتصار سهلًا، فقد كان حجم جيوش الأعداء التي حاولت تدمير الإسلام وأهله أكبر عددًا وأوفر عتادًا مما كان لدى المسلمون، ورغم ذلك نجح المسلمون في القضاء على كل تهديد داخلي وخارجي، لقد عرف كل مسلم، وكل بلد إسلامي أنه لا حصن له إلا بالإسلام، فتحصن به وامتنع، وحمل كل مسلم راية الجهاد في سبيل الله، فكان فرض الجهاد هو الذي حفظ للإسلام ولأهله وجودهم.

لقد كانت هذه الحروب والتحديات ذات هدف واحد رغم امتداد جبهتها الواسعة من أقصى الشرق على أقصى الغرب، حيث عملت على تبديل البنية السكانية للمسلمين، بيد أن القيادة الإسلامية كان لها تأثيرًا قويًا في التوجيه الديني، فلم يكن من المهم بالنسبة لهم ممارسة القيادة، ولكن كان من المهم بالنسبة لهم هو انتصار الإسلام وأهله، وقد تحقق لهم ما أرادوه وجاء الإسلام لنصرة الجميع، فمن قلب المغول التتار ظهر الإسلام وانتصر، ومن قلب الفرنج الصليبيين ظهر الإسلام وانتصر، وظهرت العلاقة الثابتة بين انتصار الإسلام بأهله، وبين انتصار المسلمين بالإسلام، وحافظت هذه العلاقة على صحتها وقيمتها منذ ظهور الإسلام، وحتى الأزمنة الحديثة[1].

[1]بسام العسلي: فن الحرب الإسلامي (أيام الحروب الصليبية)، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1408هـ= 1988م، المجلد الرابع، ص671- 675.