من شعر بدر شاكر السياب في قصيدة أنشودَة المَطَر :
عَيْناكِ غابَتَا نَخيلٍ ساعةَ السَّحَر***أو شُرْفَتان راحَ ينأى عَنهُما القَمَر
أقتصر على مطلع القصيدَة وأصنفُ النظرَ فيه إلى تقسيم ثلاثي: جملة البَيت، ونصُّه، وخطابُه : فالبيتُ جملة لأنه مُؤلَّفٌ من مُسند ومُسند إليه [مبتدأ وخبر]، مع ما يَتبَعُ ذلكَ من مُتعلِّقات ومُلْحَقات ومَعْطوفات...
وهو نصٌّ لأنه وحدةٌ دلاليّةٌ قائمةٌ بذاتها، وشبكة من العلاقات [إسناد - إضافَة - قيد الزمان... ] التي تنسج العناصر وتشد بعضَها إلى بعضٍ، وسيرورةٌ ذاتُ مُبتدأ ومُنْتَهىً تؤلفُ مشهداً منسجماً التقَطَه الشاعرُ وجَمَعَه من عَناصرَ متباعدةٍ فألَّفَ بينَه فأصبحَ كلاًّ متماسكاً. [العينان-غابتا النخيل-الزمن-القمَر-الشرفتان..]، وجاءَ بحرف العطف "أو" للتخيير بين مَشهدَيْن، والأولُ أحلى، ولكن الجمع بين المعطوف والمَعْطوف عليْه مُتعيِّن؛ لاستكمال الصورَة؛ لأنّ بالتشبيهَيْن مَعا يتحققُ مراد الشاعر؛ فقد شبّه الأهدابَ السوداءَ بالنخيل الذي اختفى وراءَه ما تَبقّى من ضوء السَّحَر فَبَدا النخيلُ أسوَدَ، ثم انتقل إلى وسط العَيْنَيْن ليشبههما بقمر ينأى عن شُرفتَيْن، فالصورتان مطلوبتان مَعا لاستكمال المَشهد المراد.
وهو خطابٌ: لأنّه شعر موجَّه من صاحبِه المتكلم به، المُبَلِّغِه إلى المُخاطَبين به، والحامل لرسالة الإبداع والتجربة الشعريّة المتفِّرَدة التي يختصُّ بها الشاعرُ السّيّابُ، ومَسوقٌ في سياقٍ يَعْلو على الزمان والمكان يُعانقُ الإحساسَ الإنسانيّ في لقطةٍ من لقطاتِ الرؤية البصريّة والقلبيّة، فالشاعرٌُ التَقَطَ اللحظةَ وثبَّتَها وألقى بها إلينا مَكسوّةً بمشاعرِه، مثلَما ساق لَنا كَعبُ بنُ زهيرٍ لقطةً نادرةً سارَت بها الركبانُ، إذ قالَ:
وما سُعادُ غَداةَ البَيْن إذْ رَحَلوا***إلاّ أغنُّ غضيضُ الطرفِ مَكْحولُ.
حيثُ شبَّه سُعادَ صبيحَة الرحيل بالأغنِّ الغَضيضِ الطَّرْفِ المَكحولِ... فلكي يستكملَ القارئ المُتلقّي صورةَ التشبيه التمثيلي عليه أن يجمع العناصرَ كلَّها، في بيتَيْ كَعب والسياب.