هذه سيرة عظيم من عظماء الإسلام، ملك كان في سيرته وأعماله مثلًا مضروبًا لما ينبغي أن يكون عليه الملك المسلم، هو الملك الحليم الفاضل العادل المحدث الفقيه مظفر بن محمود بن محمد بن أحمد ابن محمد بن المظفر الكجراتي، من ملوك أحمد آباد في الهند، وكانت أحمد آباد حاضرة الهند، ومدينة المدائن، فاقت البلدان ببساتينها وحدائقها، وحسن نظامها، وأمنها وسلامها، وإقامة العدل فيها، وكثرة علمائها ومحدثيها، والصالحين من أهلها.
مولد مظفر بن محمود ونشأته وعلمه
ولد مظفر بن محمود في يوم الخميس 20 شوال سنة 875هـ في الكجرات، ونشأ نشأة عالم عابد في أسرة أكثر ملوكها صالحون متعبدون، وقرأ ما كان معروفًا من كتب العلم، وبرع في الحديث، وشارك في العلوم والفنون كلها حتى الموسيقى، وكان خطاطًا جيد الخط، يتقن النسخ والثلث وخط الرقاع المعروف اليوم بالرقعة، وكان يكتب المصحف في يده ويبعث به إلى الحرمين، وقد حفظ القرآن في شبابه، كما مارس السيف والرمح والرمي بالفروسية والمصارعة، وأتقن الفنون الحربية.
مظفر بن محمود وتوليه الــمُلك
تولى مظفر بن محمود الــمُلك في 3 رمضان سنة 917هـ، وهو حينئذ في الثانية والأربعين من عمره، وكان يتبع السُنَّة، ويعمل بما حفظ من الأحاديث الصحيحة، في كل صغيرة وكبيرة، من أمور نفسه وأهله، وأمور الرعية، كما كان يدني العلماء ويصحبهم، ويكرمهم ويرجع إليهم، وكان يخاف الله ويخشى أن يكون قد جانب الشرع، وكان كثير الإنفاق في الخير، وكان يحافظ على الوضوء أبدًا، وعلى صلاة الجماعة، ولم يقرب الخمر قط، ولم يقع لسانه قط في عرض أحد، وكان يعفو ويسامح، ويعطي ويتجنب الإسراف والتبذير، وكان مطلعًا على أخبار الناس، يقوم بما دق وجل من شؤون الملك بنفسه، وكان يخالط الناس ويطلع على ما يسيئون فيه وما يشكون منه، وكان يحيط الممالك المجاورة له بشباك من جواسيسه وعيونه، فلا تخفى عنهم خافية من أمورهم.
كان من دأب الملوك المسلمين إذا عنوا ببلادهم، أن يعنوا ببلاد الحرمين، فيقفوا عليها الأوقاف، ويرسلوا إليها المدد، وكانت إمدادات المظفر لأهل الحرمين متصلة، وقد صنع مركبًا شحنه بأثمن القماش وأرسله هو وما فيه إلى جدة، كما بنى بمكة رباطًا فيه مدرسة وسبيل ومساكن، ووف عليه وقفًا كبيرًا، وقد كانت له في كل موسم صلات ضخمة يبعث بها إليهم.
وفاة مظفر بن محمود
توفي مظفر بن محمود في 2 جمادى الأولى سنة 932هـ، فكانت مدَّة سلطانه خمس عشرة سنة، مرت على الناس مما رأوا فيها من عدله وسخائه وحزمه وتقواه، وكأنها خمسة عشر يومًا، وكان خبر موته خبرًا عجيبًا، يدل على حسن الخاتمة، قال الآصفي: وفي آخر أيامه وكان يوم الجمعة قام إلى المحل واضطجع إلى أن زالت الشمس، فاستدعى بالماء وتوضأ وصلى ركعتي الوضوء وقام من مصلاه إلى بيت الحُرم، واجتمعت النسوة عليه باكيات يندبن أنفسهن حزنًا على فراق لا اجتماع بعده، فأمرهن بالصبر، وفرق عليهن مالًا ثم ودعهن واستودعهن الله سبحانه، وخرج وجلس ساعة، ثم أذن للحاضرين في صلاة الجمعة واستدعى مصلاه وصلى، ودعا الله سبحانه بوجه مقبل عليه وقلب منيب إليه، ثم كان آخر دعائه رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض، أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين وقام من مصلاه وهو يقول: استودعك الله، واضطجع على سريره وهو مجتمع الحواس ووجهه يلتفت إلى القبلة وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفاضت نفسه والخطيب على المنبر يدعو له[1].
[1] عبد الحي الحسني: نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1420هـ= 1999م، 4/ 431- 434، والشيخ علي الطنطاوي: رجال من التاريخ، دار البشير، مصر، الطبعة الأولى، 1418هـ= 1998م، 1/ 228- 234.
قصة الإسلام