Tue, Jan 8, 2013
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الثالثة
ميادة ابنة العراق
"ميادة ابنة العراق": قصة حقيقية ترويها امرأة أيضا، هي الصحفية العراقية ميادة نزار العسكري، إذ تنقل جزءا "بسيطا" مما جرى عليها ومعتقلات أخريات رأتهن في الزنزانة 52 في مديرية الأمن العامة، في البلديات، ببغداد. صار هذا الكتاب أحد أبرز وثائق إدانة نظام الوحشية والخوف الذي "أخرس" الجميع في داخل العراق ولربما جزءا في خارجه. ترجم الكتاب الى لغات عدة وظهر بطبعات عدة، منها طبعة مجموعة بنغوين في العام 2004، وتقدمه "العالم" لقرائها في اطار جهد يسهم بقراءة مرحلة ليس الحاضر الذي نعيشه في تفاصيل حياتنا الشخصية والعامة إلاّ نتاجها.
الحلقة الثالثة
إنها المرة الأولى التي تشاهد فيها ميادة هذا المجمع الأمني من الداخل، أما حين كان في طور البناء فكانت تمر به كل صباح في طريقها إلى العمل ولم تتخيل ولا في أغرب أحلامها أو كوابيسها بأنها ستكون "نزيلته" - كما يحلو للنظام وصف المعتقلين- أو سجينة في زنزاناته يوما إلا أن ذلك اليوم غير المتوقع وغير المعقول حل، وها هي ميادة نزار جعفر مصطفى العسكري، كما ساق ذلك الطويل المشورب اسمها كاملا، نزيلة هذه الأبنية المرعبة وكلها خشية مما ينتظرها و(أقلها إعدام) كما كان العراقيون يرددون ضمن سخرياتهم السود فهل ستكون في مواجهة هذا الموت غير الرحيم، الموت الذي يبدأ عادة بالتعذيب النفسي ثم الجسدي وأيضا بتعذيب واعتقال من يمت بصلة لها (الأولاد)؟! وكادت تصرخ ذعرا حين حزت هذه الخاطرة ذهنها مثل نصل خنجر مسموم، وتلقائيا مدت كفّاً ترتجف لتلمس وريدها ومثل حشرجة موت تعثر السؤال بدماغها:
* ماذا ينتظرني في سجن البلديات؟
كانت الدقائق ثقيلة الوطء على نفسها حين لاح لها المدخل الرئيس الكبير للمجمع الأمني بكتلته الرمادية الداكنة كأنه معبر إلى نفق الرعب. ومرقت السيارة عبر بوابة سوداء كبيرة... على جانبها وقف صدام حسين بجدارية هائلة ينظر بتعالٍ إلى جموع من العراقيين رسموا بمقاييس أصغر وهم يكدحون في الحقول والمصانع والدوائر الرسمية والمدارس والثكنات العسكرية كأنهم يتضرعون إلى قاتلهم بالعمل!
إنها جدارية التعبير عن كارزما الطاغية حين يظن نفسه "آلهة" الخلاص أو الاستبداد والفردية على الأرض (القائد الضرورة أو الرمز) كما روج جيشه الإعلامي لذلك فصدق ميديا الكذب والنفاق والخوف فصار (قائد المهالك).
* المهالك؟
وبرعب ومثل بارقة خطر لمع هذا التشبيه بذهن ميادة وهم يدخلونها الكهف القاتل.
توقف سائق السيارة أمام المبنى الكونكريت الرمادي الضخم ذي النوافذ الضيقة في أعلاه كأنها مزاغل قناصة في القلاع القديمة- فتحات على قدر متسع الرؤية والبندقية!
أصاب ميادة وهن كبير من شدة الخوف، شعرت كأن جسدها سلب منها للتّو أو أنه يمشي بلا إرادة، كأنها تقاد مخدرة نحو مقصلة الإعدام، عندها رج الصوت الأجش بسمعها آمرا بنزولها من السيارة وحالما وضعت قدمها على إسفلت كالح أحاط بها الرجلان المرافقان للمقدم السعدي!
التراب المغبّر بسمة كآبية لم تره سوى لون أسود داكن كأن الأفق انغلق عليها مثل قبر وشعرت بدوار حاد ممزوج بالخوف والهلع، كأن قلبها توقف عن النبض وسقط عند الخطوة الأولى نحو مصير معتم أسوأ احتمالاته مر ومدمر.
أغمضت عينيها وسحبت نفسا عميقا كأنها تستعيد تمارينها الروحية وهي تدرب حواسها لترى الصفاء السعيد وتنغمر في تجليات إيمان لامناص منه مجبرة نفسها على إبقاء حواسها تحت السيطرة، نظرت إلى الأعلى. كان وجه صدام "معلّقا" أينما ولت شطر نظرها، يخزرها بنظرٍ قاس يتناسب وطبيعة هذا المكان، صوره بكل الأحجام! ونظرات لا تطمئن الداخل... بل تزيد من قلقه!
* قلقة؟ (هيه... بل قولي مرعوبة!) رددت بسريرتها، كأنها بذلك تمنح ذاتها مساحة جديدة من الإيمان والشجاعة.
ميادة سبق أن التقت مباشرة صدام مرات عدة، وقفت فيها إلى جواره مرات كثيرة أيضا والتقطت لهما الصور"تكريما" لها ولعملها في الصحافة العراقية، إلا أن صوره اليوم وفي هذا المكان بالذات لها بعدها المرعب!
يزيدها غضاضة شعارات حزب البعث التي تداهمها ملصقة على الجدارية أو مخطوطة بشكل رديء، وتجمدت نظرتها عند شعار "من لا يزرع لا يأكل" فتخاطرت مع ذاتها متسائلة:
* هل ستشعر بالجوع أبدا بعد اليوم؟
وقبل أن تدفع داخل البناية الرمادية المقيتة نظرت إلى السماء وصدحت برجاء صامت:
* إلهي احفظ لي (فيء) و(علي) أرجعني لهما سالمة يا أرحم الراحمين يا رب...
صعدت درجات السلم محاطة بالرجلين هذه المرة، لم تكن خطاها تصعد نحو علو متمنى، لكنه صعود نحو هاوية سحيقة هي ليست بغموض الألغاز كي تفككها بصعوبة الغريب، أنها واضحة، لكنه الوضوح المريب المؤلم. لا أحد يصعد هنا إلا... إلى حتفه، فعصر المعجزات ولى. ولم تظن ميادة وهي تخطو خطواتها المرتبكة إلى أعلى السلم درجة درجة بغير ذلك الشر المنذر، وعلاماته جليّة لا تقبل الاحتمال. انها لا تصعد هنا إلى ذروة جبل لبنان كي تستجم وهي ليست في نزهة عائلية، ولا هي متجهة صوب قتال شريف لعدو كما في المقاومة كيما تعطي لموتها معنى الاستشهاد أو الإيمان بجنة خلد بعد الموت، هذا العلوّ له نيات واضحة وهدفه واضح، ولا لبس في معناه ومقاصده فمن يدخل هنا لا يخرج كما دخل، سيكون مشوه الروح، أو مشوه الجسد... أو سينتزعون روحه عن جسده ويمحون ذاكرة أيامه وأحلامه.
في الطابق العلوي وجدت ميادة عددا من بقايا كائنات بشرية... رجال بملابس ممزقة... عليها آثار دماء جافة... أيديهم مقيدة إلى خلاف، ظهورهم محدودبة وأقفاص صدورهم انكفأت نحو الداخل كأن ضلوعهم لاقت من التعذيب ما جعلها واهنة... وعلت ملامح وجوههم آثار الضرب المبرح إذ انطبعت ببقع وأخاديد سود وزرق، لم ينبس أي منهم بكلمة إلا أن صمتهم يحكي ويقول كأن شفرات أذاهم تفصح عن دلالاتها بحدة.
غرقت ميادة ببئر الأحزان وغمرها أسى عميق فوق أساها وهي ترى هذه العينة، المقصود بها هز كيانها وإضعاف مقاومتها وتفتيت إيمانها وهو "درس" يتقنه الجلادون في كل عصر وزمان، كأن ميادة في تلك الآونة استرجعت قصص التاريخ والمقاومات والاضطهادات ليس من صدر الإسلام حسب بل من سبارتكوس وكل الذين حلموا بالحرية ودافعوا عنها بل وكل الذين سحقتهم آلة القمع بلا مبرر ولا سبب إلا لكون آدميتهم تتحدي عبر الصمت فتفزع الطغاة في منامهم، فالصمت مقاومة من نمط آخر حين يثير قلق الطغاة، حتى الصمت له أسلحته، حتى الصمت!
فزت ميادة حين شعرت أن كفين قاسيتين تسحبانها بعنف نحو غرفة مبهمة.
فجأة تعثرت وبكت كأن خزينا مكدّساً من شحنات الضغط النفسي تراكمت لسبب ما.
رأت هولاً وصل درجة الاتقاد الوجداني، فأنفجر بعد أن طفح كيل الصبر والتصابر فما رأته من حولها لم تشهده مباشرة من قبل، هي (ربما!) على غير كثير النساء العربيات اللائي عانين من سطوة ذكورية قاسية، لم تعرف أي نوع من الاستبداد أو القسوة داخل بيت العائلة.
والدها نزار جعفر العسكري ظل مثالا راقياً للرقة والوداعة، فهو مهذب بالمعنى الكامل للكلمة. لم يعترض أو يتذمر لأن زوجته لم تنجب ذكورا، بل لم يكن أبدا مناصرا لتلك العقلية الشرقية الغالبة لدى الغالبية التي تفضل الذكر على الأنثى وتشفق على حال أي رجل لم تنجب زوجته أولادا ذكورا، ربما لأنه نظر إليهم كأنهم يحملون بعد جينات التعصب إرثا من الجاهلية الأولى، أيام وأد البنات!
ها هي الآن تواجه بدفعة أولى من العنف النفسي، وتكاد تعلم علم اليقين أي نوع من الأذى ستمر به في تالي الأيام أو اللحظات.
في عتمة هذا المقر المرعب لجهاز الأمن العام التابع لنظام صدام تمنت ميادة لو أن والدها يقف جوارها الآن. اذ لم تشعر بمثل هذه الوحدة والعزلة طوال سنيّ حياتها.
ثانيةً، استيقظت من هواجسها وخواطرها وأسئلتها الشائكة حين دفعها أحدهم من الخلف فتعثرت وكادت تنكفئ على وجهها. نظرت صوب رجل وقف خلف مكتبه وراح يزعق في الهاتف، ينكمش جلد وجهه ويتجعد كلما ارتفعت نبرة صوته.
كان شابا إلا أن شعره غمره المشيب، لم يبال بها أول الأمر بقصد إهمالها وزيادة قلقها وتوترها، وحين وضع سماعة الهاتف بعنف ألقى عليها نظرة غاضبة ولم تفارقه نوبة الغضب والزعيق فصرخ بوجه ميادة:
* ماذا كنت تعتقدين بأنك ستجنين من وراء هذه الخيانة؟!
* "خيانة!"
ازداد بكاء ميادة عند سماعها هذه الكلمة فاقلّ منها كفيل بالقتل... (خيانة؟!)... هذه التهمة تعني الموت المحقق... فنحن في عراق هيمن عليه صدام حسين وذلك وحده يعني أن المتهم مجرم وإنْ ثبتت براءته!
أحاطت رقبتها بكف يدها بعفوية ومن بين دموعها سحت هذا السؤال:
* ماذا تقصد؟
صرخ بصوت أعلى:
* أنتم الحثالة تملكون الجرأة على طباعة منشورات؟!
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الثانية
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الاولى