بعد قرنين من فتح المسلمين لصقلية على يد الفقيه أسد بن الفرات سنة 212هـ كان كل شيء يؤذن بالأفول.. كانت الأندلس تعيش حالة ملوك الطوائف الذين تداعوا تداعي البيت المفكك أمام زحف المرابطين بقيادة رجلهم المؤمن رجل العقيدة والدولة يوسف بن تاشفين.
وكانت الجزائر وتونس تعانيان من هجمة القبائل العربية الهمجية الزاحفة تدمر كل شيء دون تعقل. وكانت مصر قد ذهبت نضارتها على يد الفاطميين الذين كانوا قد فقدوا نضارتهم كذلك، بل كانت مصر التي يحكمها الخليفة المستنصر تعاني من مجاعات غريبة لعلها لم تحدث في تاريخها بالمرة لدرجة أن الناس أكلوا بعضهم بعضًا وبيعت لحوم الكلاب في الأسواق.
كان هذا هو الجو المحيط بصقلية الأغلبية الإسلامية.. الجو الذي يطلق عليه مؤرخونا عبارة "الحالة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري"!!!
لكن كل هذا كان أقل من أن يقتطع غصن صقلية من شجرة الإسلام إلى اليوم.. لقد كان ثمة سبب آخر أشد وأقوى. كان هناك الهزيمة الداخلية التي هي الباب الوحيد التي تدلف منه كل الهزائم الواردة.. كان هناك لصوص المناصب وهواة الزعامات والمتمسحون في أمجادهم العائلية.
كانت صقلية قد فقدت أمثال فاتحها العظيم أسد بن الفرات القاضي والفقيه والقائد والشهيد الذي استحق عن جدارة بطولة فتح صقلية. وحل جيل جديد تتنازعه التقاليد الوثنية النورمانية وينظر بإعجاب إلى الجنوب الأوروبي، وإلى تقاليد العدو الواقف بالباب.. وعندما حلت الهزيمة الداخلية على هذا النحو.. كان من السهل أن يدخل روجار بجيوشه، وأن تتحول صقلية إلى اليوم قلعة صليبية تكيد للإسلام.
كان روجار قائد النورمان المستوطنين بالغرب الفرنسي والإيطالي يترقب فرصة الوثوب على الجزائر وتونس.. فضلًا عن صقلية، وكما هي العادة في تاريخنا لم يستطع روجار أن يدخل إلى صقلية إلا من خلال أهلها، من خلال الهزيمة الداخلية.. فمبدأ الجهاد قد وقانا شر الأعداء الخارجيين، أما حين تتفتت العقيدة وتنحل إرادة القتال يبدأ العدو في الولوج ممتطيًا أحد الأصنام الباحثين عن الملك تحت أي شعار.
وفي معركة من المعارك الداخلية بين لصوص الحكم هُزم أحدهم.. ويسمى ابن الثمنة.. ولم يجد هذ الرجل غضاضة في أن يطلب الوصول إلى الحكم عن طريق الاستعانة بالنورمان المتحينين للفرصة فذهب إليهم يستعين بهم ويطلعهم على خفايا الجزيرة، ويمدهم بالعون إذا هم حاولوا الاستيلاء عليها.
وبدأ من يومها الغزو النورماني لصقلية.. ولم تكن القوى الإسلامية المفككة المحيطة بصقلية بقادرة قدرة حقيقية على عمل شيء.. بالرغم من أن تونس قد حاولت تقديم المساعدة. وتساقطت كأوراق الشجر في الخريف مدن الإسلام الزاهرة في هذه الجزيرة التي قدمت للإسلام والحضارة الإسلامية عديدًا من الأبطال في كل المجالات.
سقطت " مسنة ".. وسقطت " بلرم العاصمة" و " ماذر ". وبعد جهاد طويل من أحد شباب الإسلام الذين يظهرون كوهجة الشمس قبل المغيب " ابن عباد " سقطت سرقوسة، ثم خرجت ولحقت بها ضريانة فنوطس، وسجلت سنة 484هـ= 1091م السقوط الكبير لصقلية في يد عصابات النورمان.. وكما تمثلت الهزيمة الأولى- في بداية الهزيمة-.. كما قدمتها- في شخص ابن الثمنة- كذلك تمثلت الهزيمة هنا في صورتين:
الصورة الأولى.. في ابن حمود حاكم قصريانة إحدى المدن الصقلية التي سقطت وكان هذا الرجل يزعم النسب إلى العلويين.. لدرجة جعلت أحد المؤرخين الأوروبيين يصفه (بالعلوي الدنيء الرخيص) مسلمًا بقضية علويته، ولربما كانت صحيحة، فكثير من دعاة العلوية كانوا خونة!!
وقد تواطأ الرجل مع روجار لدرجة جلبت عليه سخط المسلمين في الجزيرة كلها. ولم ينته أمر هذا الخائن لأمته إلا بالنهاية الطبيعية، إلا أنه حرصًا على مزيد من الجاه لدى روجار أعلن نصرانيته وطلب من روجار أن ينقله إلى إيطاليا ليقضي بقية حياته هادئًا آمنًا، وذهب الخائن، ومع ذهاب الإسلام من أعماقه وأعماق أمثاله من المنهارين ذهبت صقلية.
والصورة الثانية.. تقدمها لنا صفحات التاريخ في شكل رسالة بعثها المسمى الخليفة الفاطمي في مصر إلى روجار تحمل تشفيًا وتهنئة بالنصر المسيحي، وبعد أن يوافق خليفة المسلمين العظيم روجار على كل أوصافه للزعماء المسلمين في الجزيرة، تلك التي وردت في رسالته وكيف أنهم جانبوا طريق الخبرات واجترءوا في الطغيان، واستعملوا الظلم، وتمادوا في الغي.
بعد ذلك ينهي رسالته بأن من كانت هذه حاله حقيق بأن تكون الرحمة نائية عنه، خليق بأن يأخذه الله من مأمنه أخذة رابية. وهذا الكلام.. صحيح. بيد أنه لن يغفر للخليفة المنهار في مصر المتمسح كذبًا في شرف النبوة أن يسقط ركن من أركان دولة الإسلام تابعًا لحكمه دون أن يحرك ساكنًا.. ثم يخرج علينا بشعارات منمقة لا قيمة لها. ولن يغفر له التاريخ كذلك أنه نفسه كان لعبة هزيلة في قصره بيد الوزراء العظام، وفي ظل أحط مجاعات عرفتها مصر الإسلامية، وإنه بدوره كان حلقة في سلسلة مصائبنا الكثيرة.
وقد زار ابن جبير الرحالة المسلم صقلية بعد سقوطها، فوصف أحوال أهلها تحت الحكم النصراني، بما يجعلها قريبة من أحوال أهل الأندلس، فقد ضربوا عليهم إتاوة يؤدوها في فصلين من العام، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض، ولا جمعة لهم يؤدونها بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة يدعون فيها للعباس، ولهم بها قاض وجامع..
ثم يختم ابن جبير حديثه عن أحوال المسلمين في صقلية بقوله: " وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار، ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم ولا في أبنائهم...". وكان هذا جزاء ما قدم زعماؤهم الخونة، وسادتهم الفاطميون المارقون[1].
[1] عبد الحليم عويس: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، ص65- 68.