في هذه الأيام، أيام وصول البشرية إلى مرحلة من السبات الصيفي بسبب
فيروس كورونا، يجب التشبث بالفن بأقصى ما يمكن. الفنون هي التي تساعد على قتل الملل، وترتقي بالإنسان في وقت فراغه (والذي أصبح هناك منه الكثير الآن بالطبع).. كارلوس زافون صاحب رباعية مقبرة الكتب المنسية الشهيرة، كان أحد أيقونات الأدب الإسباني والذي رحل عن عالمنا.
تميز أسلوبه بالواقعية المفرطة، وملامسة شخصياته وأحداثه للواقع جدًا. حتى حصل على لقب (الكاتب المليوني)، حيث تخطت مبيعات رواية واحدة فقط له، المليون نسخة. وهذا شيء ضخم جدًا ومهول بالنسبة إلى سوق الأدب الإسباني. ببساطة يمكن وضعه على قدم المساواة مع
نجيب محفوظ أو
باولو كويلو مثلًا. هذا الرجل ارتقى بكتابات الأدب الإسباني إلى مراتب لم يصل إليها غيره فعلًا. لكن للأسف، لكل شيء نهاية، حتى العظماء لهم نهاية.
اليوم سوف نتعرف أكثر على كارلوس زافون يا رفاق، الكاتب الإسباني الذي افتقده الأدب فعلًا.
نشأة وحياة ورحيل الكاتب كارلوس زافون
كأي شخص ساهم لاحقًا في تغيير مسار العالم، بالتأكيد كانت في حياته تجارب إنسانية كثيرة، أكسبته الخبرة اللازمة ليكون حكيمًا في فنه، فبالتالي يؤثر في الجمهور. وبالفعل، كانت حياة كارلوس زافون مليئة بالتجارب التي أثمرت لاحقًا عن أعمال في غاية الروعة والجمال، وحتى الآن ما زالت حيّة، وستظل حتى لقرون وقرون ستأتي.
وُلد كارلوس زافون في برشلونة، بيوم 25 سبتمبر من عام 1964. ربما لن تتوقع ذلك، لكنه بدأ حياته المالية عن طريق العمل في مجال التسويق. جداه عملا في مصنع، بينما عمل والده في مجال التأمينات. أجل، بدايته لم تكن أدبية أو فنية على الإطلاق، لكن لاحقًا اختلف الوضع بشدة. في فترة تسعينات القرن الماضي، قرر كارلوس زافون الانتقال إلى لوس أنجيلوس، بالولايات المتحدة الأمريكية. وهناك أخيرًا بدأ حياته الفنية، وكانت أولى خطواته مع كتابة السيناريوهات السينمائية، فقد برع في الأمر جدًا. خصوصًا أنه في تلك الفترة كان متمكنًا من مفاتيح اللغة الإنجليزية بشدة، وهذا سهل عليه كتابة السيناريوهات، وكذلك القراءة في مختلف المجالات المكتوبة بالإنجليزية.
أما بالنسبة للروايات، فبدأ حياته مع رواية أمير الضباب، والتي نشرها بعام 1993، وحققت شهرة واسعة النطاق بداخل إسبانيا وخارجها. حتى ذاع صيتها في بريطانيا، وتخطت المليون نسخة هناك. بعدها تشجع زافون أكثر، وقرر هذه المرة الكتابة للشباب، وأصدر مجموعة كتب مثل: قصر في منتصف الليل، مارينا، وأضواء سبتمبر. وبالطبع لاحقًا في مقال اليوم سوف نتحدث عن رباعيته الخالدة: مقبرة الكتب المنسية.
وفي يوم 19 يونيو من عام 2020، أنهى كارلوس زافون رحلته في هذه الدنيا، وتوفي بالسرطان، ليفقد الأدب الإسباني واحد من كتابه البارزين.
ما تأثير الأدب الأجنبي على الأدب العالمي ؟
قبل التحدث عن تأثير كارلوس زافون تحديدًا على الأدب، لنتحدث قليلًا عن تأثير الأدب على الأدب.
جملة غريبة، أليست كذلك؟ الفكرة أنني أقصد الأدب الأجنبي. الغرض هنا هو تسليط الضوء على تأثر الأدب العالمي، بالأدب الأجنبي. الأدب العالمي في وجهة نظري هو عبارة عن كوكبة الأعمال المكتوبة بالإنجليزية. حيث أن الإنجليزية هي الأكثر انتشارًا، والتي يستطيع أي شخص القراءة بها جيدًا في فترة وجيزة. على عكس العربية المثلًا، والتي تستدعي عشرات العشرات من الساعات فقط للتمكن من قراءة كلمة واحدة تحتوي على 4 حركات فقط. ما بالكم بالجمل المركبة في كلمة واحدة مثل (فأسقيناكموه) ؟
الإنجليزية هذه الأيام هو المُشكِّلة لكل شيء، وأي شيء. حتى عند نقل الحديث إلى مضمار فن السينما، كذلك ستجد جائزة الأوسكار تعتمد في الأساس على الأعمال الهوليودية، بينما لها فرع (أفضل فيلم بلغة أجنبية). فبالتالي وجود الأدب الأجنبي أمر هام جدًا، ومفيد للأدب العالمي حتى. فعند كتابة عمل باللغة العربية مثلًا، ويحصل على صيت كبير محليًّا، سوف تتم ترجمته إلى الإنجليزية. وعندما يحدث ذلك، سوف يتم إدخال ثقافة جديدة على الثقافة الأصلية للغة المُترجم إليها.
فبالتالي مع الوقت تُذاب الفروق المجتمعية بين أهل اللغات المختلفة، ويصبح الدين العام للناس هو دين الإنسانية. وهذا بسبب كون اللغات بالنسبة للبعض، عبارة عن وسيلة للتمسك بالنصوص القديمة العدائية، لمجرد أنها مكتوبة بها فقط. هؤلاء يقرنون اللغة، بالنص القديم، وهنا يحصل النص على نفس مكانة اللغة. واللغة مكانها مرتفعة، إذًا النص مكانته مرتفعة، بغض النظر عن الكراهية القابعة فيه.
لذلك الأدب الأجنبي قادر على جعل الناس أكثر إنسانية وتقبلًا للآخر. لأنه في النهاية، كل الثقافات عبارة عن تجارب، واختلاف التجارب له نتائج مختلفة. بعضها جيد، وبعضها سيء، وهذه هي الحياة. كارلوس زافون استطاع تعريف العالم على الثقافة الإسبانية ببراعة منقطعة النظير، وأثبت أن الإنسان لا يجب أن يتحدث الإنجليزية كلغة أولى، كي يحصل على حفاوة عالمية.
ما تأثير كارلوس زيفون تحديدًا على الأدب ؟
تأثير كارلوس زافون على الأدب ككل، وبصفة خاصة الأدب الإسباني، أتى مع رباعيته الخالدة: مقبرة الكتب المنسية. تلك الرباعية التي قدم أول أجزائها في 2002، وآخر أجزائها في 2016، مقدمًا للعالم تحفة فنية من الطراز الرفيع، يصعب تكرارها فعلًا. وأتت أجزاء الرباعية على الترتيب الآتي بالضبط: ظل الريح (2002) – لعبة الملاك (2008) – سجين السماء (2011) – متاهة الأرواح (2016).
تتحدث الرباعية عن رجل يدعو ابنه إلى مكتبته، ويطلب منه اختيار كتاب واحد فقط كي يحتفظ به أبد الدهر. التفريط في هذا الكتاب مرفوض تمامًا، والاحتفاظ به واجب وقسم. وبالفعل يختار الفتى أحد الكتب. ومن شدة فضوله، يشرع في القراءة، حتى أنهاه سريعًا، وأعجبه أسلوب الكاتب، وقرر قراءة المزيد من أعماله. لكن وقتها يتضح أن هناك شخص ما يقوم بحرق وتمزيق كل أعمال هذا الكاتب بالتحديد، ويرى أنها مصدر الشرور في هذا العالم المسالم. مَن هو هذا الشخص؟ ولماذا يضطهد هذا الكاتب بالتحديد دونًا عن سواه؟ هذا ما يتناوله كارلوس زافون في رباعيته الرقيقة: مقبرة الكتب المنسية.
في هذه الرباعية استطاع كارلوس زافون بمنتهى البراعة اللعب على أكثر من وتر حساس. فبينما ركز على قضايا إنسانية كثيرة، استطاع أيضًا التركيز على القارئ الذي قرأ الرباعية نفسها. فخلال الأحداث، سلط الضوء على هَوس التكديس القهري للكتب، والبيبلومينيا المرضية التي تنطوي على وجود الكتب كطوق نجاة للإنسان، وحتى إن لم يفتحها حتى. البيبلومينيا في الواقع هَوس قهري في بعض الأحيان قد يكون مؤذيًا لصاحبه، ولكل من حوله. لكن على كلٍ، استطاع زافون فعلًا لمس قلوب القرّاء، عبر التنويه للأمر الذي ربما يعاني منه القارئ بنسبة كبيرة. وربما إذا نقلنا الكاميرا من داخل الرواية، إلى الواقع، نرى أن رباعية زافون نفسها، ضمن مكتبة ضخمة جمّعها القارئ المريض على إثر البيبلومينيا ذاتها.
كارلوس زافون لم يمت يا صديقي
لا يوجد كاتب على وجه هذه الأرض، انتهى وجوده فعلًا مع فناء جسده.
الكلمات هي الدليل الدامغ على وجود أحدهم يومًا ما، وهي سفينة السفر عبر الزمن التي ستستمر في نقله إلى المستقبل باستمرار.
الجسد يفنى، وتحيا الكلمات.
الجسد يفنى، وتحيا الأفكار.
الجسد يفنى، ويحيا الإنسان.
أحمد سامي - أراجيك