احساس شاعر
تاريخ التسجيل: July-2014
الدولة: بغداد الحبيبة
الجنس: ذكر
المشاركات: 61,676 المواضيع: 17,422
صوتيات:
2
سوالف عراقية:
3
مزاجي: متقلب جدا
المهنة: كرايب الريس
أكلتي المفضلة: الباجه
موبايلي: نوت ٢٠
آخر نشاط: منذ 4 يوم
الاتصال:
التَّوافُقُ أَحَدُ مَظاهِرِ عَلاقَةِ عِلْمِ الْعَروضِ بِعِلْمِ الصَّرْفِ
• نَشْأَةُ الْوَزْنِ وَشُيوعُه وَاسْتِحْداثُه
أَثَرُ الِانْتِباهِ إِلى بَديعِ التَّقْسيمِ
[25] نظر علماؤنا القدماء في مثل قول الشاعر :
" وَللّهِ عَيْنا مَنْ رَأى أَهْلَ قُبَّةٍ أَضَرَّ لِمَنْ عادى وَأَكْثَرَ نافِعا
وَأَعْظَمَ أَحْلامًا وَأَكْبَرَ سَيِّدًا وَأَفْضَلَ مَشْفوعًا إِلَيْه وَشافِعا "
فوجدوه قد جزأ البيت على حسب مواقف اللسان : أَضَرَّ لِمَنْ عادى = فعول مفاعيلن ، وَأَكْثَرَ نافِعا = فعول مفاعلن ، وَأَعْظَمَ أَحْلامًا = فعول مفاعيلن ، وَأَكْبَرَ سَيِّدًا = فعول مفاعلن ، وَأَفْضَلَ مَشْفوعًا = فعول مفاعيلن ، إِلَيْهِ وَشافِعا = فعول - أو فعولن إذا أشبعت الهاء - مفاعلن .
ونظروا في مثل قول الآخر :
" أَفادَ فَجادَ وَشادَ فَزادَ وَقادَ فَذادَ وَعادَ فَأَفْضَلْ "
فوجدوه قد زاد على مثل ما صنع الأول ، التزامَ سجع الأجزاء : أَفادَ = فعولُ ، فَجادَ = فعولُ ، وشادَ = فعولُ ، فَزادَ = فعولُ ، وَقادَ = فعولُ ، فَذادَ = فعولُ ، وَعادَ = فعولُ .
ولقد جعلوا ذلك كله من بديع التقسيم ، ثم ميزوا عمل الأول ؛ فسموه ( التَّقْطيع ) ، وعمل الآخر ؛ فسموه ( التَّرْصيع ) ؛ ففتحوا للمحدثين باب فهم نشأة الوزن العروضي العربي ، حتى قال جويار المستعرب الألماني ، كلمته السديدة : " قد اتضح إذن أصل البحور العربية ؛ فالعرب بدؤوا بالتعبير عن أنفسهم بالنثر خاصة ، ثم استجابة لدافع طبيعي لهذه الحاجة الفنية الجمالية الفطرية عند البشر (...) في إحداث لون من النظام ونوع من الانتظام فيما يأتونه - تَصَوَّروا أن يقطعوا حديثهم إلى جمل من نفس الطول ، ونزعوا إلى جعل هذه الجمل متشابهة فيما بينها أكبر قدر ممكن من التشابه . والوسيلة الوحيدة التي كانت بإمكانهم ، هي أن يحاكوا في الجملة نفس الصوت الذي سمعوه في الجملة قبلها ، وهكذا نشأ السجع . لكن نتج عن هذا الأمر نفسه ، القائم على محاكاة صيغ الكلمات وترتيبها بين الجمل ، نوع من الإيقاع أَطْرَبَ أسماعهم ، وكان عليهم أن يبحثوا عن طريقة لترتيب هذه الكلمات بشكل يحدث لهم التأثير الأكثر إمتاعا ؛ فتوصلوا إلى ذلك بأحد أمرين : إما باستخدام كلمات من نفس الصيغة من كل شطر ، وإما برصف كلمات مختلفة من شأن اجتماعها مع بعضها أن يولد مجموعات إيقاعية متشابهة ، وكانت البحور " ، ثم تلاه غير واحد من الباحثين العرب ، كالدكاترة عبد الله الطيب المجذوب ، وعبد المجيد عابدين ، ومحمد عوني عبد الرؤوف .
أَثَرُ الْوَزْنِ الصَّرْفيِّ فِي الْوَزْنِ الْعَروضيِّ
[26] لقد تولد وزن البيت إذن ، من وزن الكلمة المكرر ، ووضح أن الوزن العروضي توظيف للوزن الصرفي ، مما كان فيما أحسب ، وراء دعوة أستاذنا الدكتور محمد حماسة إلى كشف التفاعل الكامن في العبارة الشعرية ، بين الوزن العروضي وأبنية المفردات .
إن في هذه العلاقة التي اتضحت ، جوابا وتفسيرا لأسئلة وملاحظات عروضية تتكرر في مختلف الأمكنة والأزمنة ، على اختلاف اللغات ، كملاحظة ابن خلدون : " ليس كل وزن يتفق في الطبع ، استعملته العرب في هذا الفن ، وإنما هي أوزان مخصوصة يسميها أهل تلك الصناعة البحور " ، وكسؤال الباحث الأمريكي : " لماذا هذه الأشكال العروضية بالذات وليس غيرها ؟ " ؛ ففي كل لغة علاقة خاصة بين وزنها العروضي ووزنها الصرفي ، تُحَدِّدُ لها بحور شعرها .
وفي شهادة طريفة لبعض المشغولين بالتجديد من الشعراء ، جواب وتفسير آخران عمليّان خارجان من معاناة الإبداع نفسها ؛ إذ قال الشاعر المصري محمد سليمان : " اكتشفت أن اللغة ليست بريئة نغميا ، وأن الشاعر عليه أن يواجه سلطتها وتسلطها على المستويين : الدلالي والنغمي ؛ فكل مفردة هي في الغالب جزء من تفعيلة أو تفعيلة كاملة ( خَيْمَةٌ = فاعلن ، صَباحٌ = فعولن ، جُمَّيْزَةٌ = مستفعلن ، مَطَرٌ = فعلن أو متفا ... إلخ ) . العبارة الأولى في القصيدة وأحيانا المفردة الأولى تحدد الإطار النغمي ، ومجرد بروز تفعيلة معينة في مدخل القصيدة يحدث نوعا من الانتقاء اللغوي ، ويضيق بالتالي أُطُر الحرية ، ويقمع كل محاولة للإمساك بكامن إيقاعي خاص بالتجربة " .
إنه يقر بتلك العلاقة ويعترف بخضوعه لها مرغما أسيفا ، ولا فرق في هذا بين الصورة السالمة للوزن العروضي والصورة المغيرة ، في صدورها عن وزن الكلم الصرفي .
أَثَرُ الْوَزْنِ الْعَروضيِّ فِي الْوَزْنِ الصَّرْفيِّ
[27] تتبع ابن عصفور صيغ الكلمات ، فاستوعبها أولا بالقسمة العقلية السالفة الذكر في الفقرة العاشرة ، ثم مضى يعرض لأوزانها وزنا وزنا ، فأطال جدا ، حتى إنه استفرغ في هذا عُظْمَ كتابه . وقد وجدته في كثير من الأحيان يقف أمام الوزن كالمنكر ، يقطع مرة بأنه مما أخرجه الوزن العروضي ، ويصمت أخرى فتقوم طريقته في التفسير مقام ذلك القطع نفسه . فمن النمط الأول قوله : " زاد بعض النحويين في أبنية الخماسي ( فِعَّلِل ) نحو ( صِنَّبِر ) ، والصحيح أنه لم يجئ في أبنية كلامهم إلا في الشعر ، نحو قوله :
بِجِفانٍ تَعْتَري نادِيَنا مِنْ سَديفٍ حينَ هاجَ الصِّنَّبِرْ " .
ومنه كذلك أنه يرى وزن ( يَفْعَلّ ) الذي جاء منه ( يَهْيَرّ )، و( فِعْيَلّ ) الذي جاء منه ( قِشْيَبّ ) ، و( قِسْيَنّ ) ، و( عِظْيَمّ ) - حادثين بتشديد آخر الكلمة الصحيحة الآخر غير المهموزته ولا المسبوق آخرها بساكن ، عند الوقف الذي لا يتورع الشاعر عن استعماله في الوصل ، كما في قول راجزهم :
" مَحْضُ النِّجارِ طَيِّبُ الْعُنْصُرِّ " .
ومن النمط الآخر أنه يرى أن وزن ( فُعَلِل ) الذي جاء منه ( عُلَبِط ، وهُدَبِد ، وعُكَمِس ، وعُجَلِط ، وعُكَلِط ، ودُوَدِم ) ، ووزن ( فَعَلُل ) الذي جاء منه ( عَرَتُن ) ، ووزن ( فَعَلِل ) الذي جاء منه ( جَنَدِل ، وذَلَذِل ) - حادثة بحذف الألف تخفيفا ، بدليل أنها رويت أيضا بإثباتها . ومنه كذلك ما رأى فيه عكس ما سبق قائلا : " وكذلك ( خِلَفْناة ) : ( فِعَلْناة ) ، إلا أنه ليس ببناء أصلي ، لأنهم قد قالوا : ( خِلَفْنَة ) ، فيمكن أن يكون هذا مشبعا منه " .
إن لابن عصفور في علم الصرف وضرائر الشعر ، كتابين معدودين في أفضل ما خرج في هذين الشأنين جميعا ؛ ومن ثم تجد آراؤه فيهما دائما العنايةَ الملائمةَ ، ولست إلا واحدا ممن يعبؤون بها . لقد منعه علمه بالصرف من أن يجد تلك الأوزان الصرفية ولا يعرض لها ، ومنعه علمه بضرائر الشعر من أن يجدها من عمل الشعراء في شعرهم ولا ينبه على هذا فيها ، غير أنه صرَّح مرة ولمَّح أخرى ، فلم يكن تلميحه بأقل دلالة عندنا من تصريحه ؛ إذ قد علمنا من ملاحظة علاج الشاعر لشعره ، أنه لا يتورع عن تغيير وزن الكلمة الصرفي ، تسليما للوزن العروضي ، دون أن يفسده ، وليس أسهل عليه من مثل ما ذكره ابن عصفور .
لدي تجربة طريفة ذكرها لنفسه الدكتور نجيب البهبيتي - رحمه الله ! - عانى فيها النظر في شعر طرفة بن العبد ، ثم قال : " شعرت شعورا واضحا أنه يُكَيِّف الألفاظ ، ويُطَوِّعها لوزن شعره ، وختام بيته . ومن ذلك قوله في جمع ( فَرِح ) : ( فُرُح ) ، و( هاذِر ) : ( هُذُر ) ، و( فاخِر ) : ( فُخُر ) ، و( بِكْر ) : ( بُكُر ) ، و( إِزار ) : ( أُزُر ) ، و( وَقور ) : ( وُقُر ) ، و( أَشْقر ) : ( شُقُر ) ، وغيرها (...) ومن هذا القبيل أيضا تخفيف الحرف المتحرك في وسط الكلمة ، بإبدال حركته سكونا ، كـ( مَلْك ) في ( مَلِك ) ، وعكس ذلك ، كقوله في ( شُقْر ) : ( شُقُر ) ؛ فهذه فيما أظن ، عمليات قد أكسبها الشعر للكلمة " .
إن في كون أكثر ضرائر الشعر ، من تغيير الوزن الصرفي ، بيانا لعلاقته بالوزن العروضي ، ثم إنه بالإلحاح على تغييرات بعينها ، تنشأ أوزان صرفية جديدة ، ويتأصل استعمالها عرفا ، فلا يملك علماء الصرف إلا أن يضيفوها إلى مادتهم ويراعوها في عرض علمهم ، وإن كان منهم العالم بالشعر الذي يفطن إلى تلك النشأة ، وغيره الذي يكتفي بالإضافة .
ظاهِرَةُ الْمُلْحَقِ أَقْوى آثارِ الْوَزْنِ الْعَروضيِّ فِي الْوَزْنِ الصَّرْفيِّ
[28] ولقد صار لـ( الملحق ) باب مستقل أصيل في علم الصرف ، يعرض فيه علماؤه لأوزان صرفية نشأت لغرض لفظي ( صوتي ) ، بتغيير أوزان صرفية أولى ، ربما لم تعد مستعملة ، تغييرا يجعلها بزيادة حرف أو حرفين ، على وفق أوزان معينة ، من نوع مقاطعها وعددها وترتيبها ، " ليصير ذلك التركيب بتلك الزيادة ، مثل كلمة أخرى في عدد الحروف وحركاتها المعينة والسكنات ، كل واحد في مثل مكانه في الملحق بها ، وفي تصاريفها : من الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل واسم المفعول - إن كان الملحق به فعلا رباعيا - ومن التصغير والتكسير ، إن كان الملحق به اسما رباعيا لا خماسيا . وفائدة الإلحاق أنه ربما يُحْتاج في تلك الكلمة إلى مثل ذلك التركيب في شعر أو سجع " .
ما ( المُلْحَقُ ) فيما أرى ، إلا ظاهرة وزنية صرفية ، من آثار الوزن العروضي ونتائج علاج الشاعر لإبداع شعره ، صارت سنة لغوية اتبعه فيها غيره من مستعملي اللغة . ومن قديم ينهج الشعراء لغيرهم مناهج اللغة .
كذلك أرى أن الإلحاق كان في أَوَّليَّته لفظيا ( صوتيا ) فقط ، ثم صار وسيلة إلى توسيع المعنى أو تضييقه أو التعبير عن معنى جديد . إن لدينا نماذج باقية من تلك المرحلة السابقة ، تؤكدها وتبينها ، قال ابن منظور : " جَهَرَ بكلامه ودعائه وصوته وصلاته وقراءته (...) وأَجْهَرَ وجَهْوَرَ : أعلن به وأظهره " ، وقال : " شَمَلَ الرجل وانْشَمَلَ وشَمْلَلَ : أسرع وشمَّر " ، فقدم لنا فيهما ( جَهْوَرَ ) الذي على وزن ( فَعْوَلَ ) ، الملحق بـ( فَعْلَلَ ) ، بتغيير ( جَهَرَ = فَعَلَ ) ، و( شَمْلَلَ ) الذي على وزن ( فَعْلَلَ ) ، الملحق بـ( فَعْلَلَ ) كذلك ، بتغيير ( شَمَلَ = فَعَلَ ) - اللذين لم يتغير المعنى فيهما عنه فيما غُيِّرا عنه . ولا نحتاج إلى نماذج للمراحل اللاحقة ( كسَيْطَرَ = فَيْعَلَ ، وشَرْيَفَ ، بمعنى قطع ورق الزرع الجاف = فَعْيَلَ ) ، الملحقين كذلك بـ( فَعْلَلَ ) ، بتغيير ( سَطَرَ = فَعَلَ ، شَرُفَ = فَعُلَ ) ؛ فهي الآن المستولية على الملحق ، حتى لقد صار ملجأ المحدثين كلما احتاجوا إلى التعبير عن معنى جديد ، ولا سيما إذا ترجموا فعجزوا عن مقابلة الكلمة بمثلها من العربية ، فأخرجوا لنا كلما لا أستطيع الآن حصرها - بل لم أعلم أحدا قام بهذا - وفقوا في بعضها وأخفقوا في بعضها ، كما في مثل : عَلْمَنَ = فَعْلَنَ ، بتغيير عَلِمَ = فَعِلَ ، وعَمْلَنَ = فَعْلَنَ ، بتغيير عَمِلَ = فَعِلَ ، وجَمْعَنَ = فَعْلَنَ ، بتغيير جَمَعَ = فَعَلَ ، وشَعْرَنَ = فَعْلَنَ ، بتغيير شَعَرَ = فَعَلَ ، وبَنْيَنَ = فَعْلَنَ ، بتغيير بَنى = فَعَلَ ، ومَعْجَنَ = مَفْعَلَ ، بتغيير عَجَنَ = فَعَلَ ، ومَعْجَمَ = مَفْعَلَ ، بتغيير عَجَمَ = فَعَلَ ، ومَفْصَلَ = مَفْعَلَ ، بتغيير فَصَلَ = فَعَلَ ، ومَنْطَقَ = مَفْعَلَ ، بتغيير نَطَقَ = فَعَلَ ، ومَذْهَبَ = مَفْعَلَ ، بتغيير ذَهَبَ = فَعَلَ ، وبعضها أشبه بالنحت منه بالإلحاق . وكما اضطر علماؤنا القدماء إلى الإقرار بباب الملحق ، قبل مجمع اللغة العربية بعض ما ابتكره المحدثون .
الْتِباسُ كَثْرَةِ الْبُحورِ بِكَثْرَةِ الصِّيَغِ
[29] في خلال دراسته لاستعمال الأوزان الصرفية في اللغة العربية ، استحضر الدكتور الأب هنري فليش الأوزان العروضية ؛ فنم عن اعتقاده أن بينهما العلاقة التي ذكرت . لقد قسم الأوزان الصرفية على قسمين :
1 صيغ ذات إيقاع صاعد ، وهي التي تبدأ بمقطع قصير يليه مقطع طويل ، كما في : ( فَعالٌ ، وفِعالٌ ، وفُعالٌ ، وفُعَيْلٌ ، وفَعيلٌ ، وفَعولٌ ، وفُعولٌ ) .
2 صيغ ذات إيقاع عكسي ( هابط ) ، وهي التي تبدأ بمقطع طويل يليه مقطع قصير ، كما في : ( فاعَلٌ ، وفاعِلٌ ، وفَيْعَلٌ ، وفَوْعَلٌ ) .
وقد لاحظ إيثار العربية القديمة التي وصفها بالصحراوية ، استعمال القسم الأول ، على استعمال القسم الآخر ، مما أنتج للأول كثيرا من الأوزان ، وأفضى إلى إهمال كثير من إمكانات الآخر .
وهو يسرع ليوضح أن صيغة ( فاعَل ) من القسم الآخر ، لم يتعد ما جاء منها ثماني كلمات ، كانت أعجمية الأصل ، كـ( خاتَم ) ، وأن كثرة كلم صيغة ( فاعِل ) ، إنما يرجع إلى وَظيفيَّتها الصرفية ( اسم فاعل ) ، لا إلى طبيعتها الإيقاعية .
ثم هو يطلع على ما قام به بعض الباحثين في عروض الشعر العربي ، من إحصاء للأوزان المستعملة ، فيكتشف أن شعر العربية القديمة ( الصحراوية ) ، كان يؤثر بحر الطويل ( وتفاعيل بيته " فعولن مفاعيلن " أربع مرات ) ، والكامل ( وتفاعيل بيته " متفاعلن " ست مرات ) ، والوافر ( وتفاعيل بيته " مفاعلتن " ست مرات ) ، والبسيط ( وتفاعيل بيته " مستفعلن فاعلن " أربع مرات ) ، وأغلبها يميل في تفاعيله إلى ذلك الإيقاع الصاعد ، " وعنصر إيقاع الوتد المجموع المذكور ، هو صانع الإيقاع الصاعد : فيبدأ الصوت بمقطع قصير ، ثم يمتد إلى مقطع طويل . إحساس بالاجتذاب إلى أمام ، وشعور بوثبة واندفاعة ، يحتمل تعزيزها بارتفاع الصوت على هذا المقطع الطويل من أجل النبر الموسيقي ، مع كثير أو قليل من تردد الصوت بحسب الأوزان . ألا يمكن أن يكون هذا هو السبب ، أو أحد أسباب تلك الجاذبية الخفية لوزن الطويل " ؟ وكأنما يومئ إلى ملاءمة الإيقاع الصاعد لفضاء الصحراء ، الذي لا يتضح فيه الإيقاع الهابط .
إنه تناول واع جدا لطبيعة اللغة العربية ، غير أنني لا أرى لواحد فقط دون غيره ، من الوزنين العروضي والصرفي كما رأى هو ، فضل تأثير في نسبة استعمال الآخر ، بل كل منهما مؤثر ومتأثر ، بادئ مرة ومبدوء أخرى .
وَهْمُ اطِّراحِ الْأَوْزانِ وَاسْتِحْداثُها
[30] لو استطاع مستعمل اللغة العربية ، أن يعبر عن اسم الفاعل من ( ضرب ) ، بكلمة مفردة غير ( ضارب ) ، لاستطاع أن يأتي بشعر عربي ذي وزن عروضي لا علاقة له بأوزان الشعر العربي في تاريخه الطويل . هذا ما أراده ابن عبد ربه ، ببيت أرجوزته :
" وَإِنّه لَوْ جازَ في الْأَبْيات خِلافُها لَجازَ في اللُّغات " .
أي لما لم يكن للمتكلم بالعربية أن يعبر عما يريد بأوزان صرفية جديدة ، لم يكن للشاعر أن ينظم على أوزان عروضية جديدة ، لأنه لا يفهم مراد الأول ولا يشعر بوزن الثاني ، متلقٍّ عربي .
من ثم يكون في تفريق الزمخشري بين اللفظ ( الأصوات والوزن الصرفي ) ، والوزن ( العروضي ) ، نظر ؛ إذ قال : " حد الشعر ( لَفْظٌ ، مَوْزونٌ ، مُقَفًّى ، يَدُلُّ على مَعْنًى ) ؛ فهذه أربعة أشياء : اللفظ ، المعنى ، الوزن ، القافية . فاللفظ وحده هو الذي يقع فيه الاختلاف بين العرب والعجم ؛ فإن العربي يأتي به عربيا ، والعجمي يأتي به عجميا . وأما الثلاثة الأخر فالأمر فيها على التساوي بين الأمم قاطبة " .
إن الحقيقة أن مجرد اللفظ ( الأصوات ) ، هو المشترك بين الأمم غالبا ، وأن موطن الاختلاف ، إنما يكمن في الوزن الصرفي الذي يوظفه الوزن العروضي ، فيخرج هذا مطبوعا بطابع لغته .
ولهذا لا يمكننا أن نسلم بقول بعض الدارسين : إن الأندلسيين حطموا عمود الشعر العربي القديم وأصابوا اللغة القرشية في صميمها ؛ فإنهم إنما تصرفوا في الوزن العروضي ، دون أن يخرجوا عن فلكه ، ولو كانوا قد حطموه لكانوا قد حطموا عمود اللغة كذلك . وكل ما لم يكن بهذه المثابة من كلامهم الفني ، كان كغيره في كل زمان ومكان ، ينبغي ألا يدعي له أحد وزنا عروضيا ؛ فما الموشح إلا محاولة من محاولات سابقة ولاحقة ، للتصرف في الوزن العروضي ، وإن كان من أشدها ظهورا ونجاحا.
طَبْعُ الْفَنّانينَ أَسْلَمُ مِنْ نَظَرِ الْعُلَماءِ
[31] ولقد كان الشاعر حسب الشيخ جعفر - صاحب محاولة تصرف في الوزن العروضي - أكثر إنصافا من نفسه حين قال : " هناك تفعيلة ، متى ما هشمت هذه التفعيلة ، واكتشفنا تفعيلات جديدة ، نكون أمام اجتهاد آخر . ولكننا ما زلنا في التفعيلة نفسها ، وبالطبع فنحن ندور في الشعرية العربية بعامة . ويمكن أن يطرح هذا السؤال عند اللغويين ، وبخاصة في ما يحدث الآن في الكتابات عن البنيوية مثلا : هل هناك في المستقبل تصور عن تهشيم التفعيلة لاكتشاف تفعيلة جديدة ، أم أن هذه التفعيلة الجديدة هي من لفظ اللغة العربية نفسها ، فإذا ما هشمت هذه التفعيلة ، فينبغي أن تهشم من أسس أخرى في التكوين اللغوي أصلا . وبالطبع فإن هذه المسألة مسألة شائكة " .
إنه يطمح إلى أن يستبدل بالوزن العروضي الموروث ، غيره ، ليقدم اجتهاده الخاص كما قدم السلف اجتهادهم ، ولاسيما أنه يتفقد محاولات التجديد فيجدها تدور في فلك الوزن العروضي الموروث ، غير أنه يشعر بعلاقة هذا الوزن العروضي الذي يفكر في تهشيمه - إذا استعملت تعبيره المتأثر لمنهج تفجير الوزن واللغة - بالوزن الصرفي ، فيستعظم عندئذ هذا الطموح !
إننا حين نقرن تجربة هذا الشاعر ، بتجربة الشاعر محمد سليمان السابق عرضها ومناقشتها في الفقرة السادسة والعشرين ، يتجلى لنا الشعراء أكثر وعيا لهذا الأمر وأدق نظرا ، من بعض النقاد الذين يتجملون باستنفار هِمَمِهم إلى استحداث تفعيلات جديدة " تكون قادرة على استيعاب مشاعرهم المتجددة ، ورؤاهم المتغيرة ، وأدواتهم النامية " ، ونتذكر كلمة البحتري في تفضيل أبي نواس على مسلم ، بعدما قيل له : " إِنَّ أَبا الْعَبّاسِ ثَعْلَبًا لا يُوافِقُكَ عَلى هذا . فَقالَ : لَيْسَ هذا مِنْ شَأْنِ ثَعْلَبٍ وَذَويه ، مِنَ الْمُتَعاطينَ لِعِلْمِ الشِّعْرِ دونَ عَمَلِه ، إِنَّما يَعْلَمُ ذلِكَ مَنْ دُفِعَ في مَسْلَكِ طَريقِ الشِّعْرِ إِلى مَضايِقِه وَانْتَهى إِلى ضَروراتِه " !