مفهوم اليمين واليسار في العمل السياسي
الثلاثاء 08-01-2013 03:13 PM
ان مفهوم اليمين واليسار يستعمل كثيرا في الحياة السياسية والفكرية والثقافية من قبل المشتغلين في هذه الحقول، وكذلك يستعمل من قبل اشباه السياسيين وانصاف المثقفين لمدح او ذم من يتفق او يختلف معهم في الرأي والموقف والتوجه السياسي، وكثيرا ما ياتي استعمال هذا المفهوم من قبل البعض استعمالا عشوائيا غير مسؤول وفي غير موقعه الصحيح، اي يعني غير ما من المفروض ان يعنيه في غالب الاحيان، لذلك اجد من الضروري بل من الواجب تسليط الضوء على تاريخ ومضمون ونشأة وتطور هذا المفهوم تاريخيا لتنوير قراء جريدتنا الغراء "بهرا".
اليمين واليسار تعبيران سياسيان يرجعان بالاصل تاريخيا الى وضع او موقع نواب البرلمانات بالنسبة الى موقع رئيس البرلمان، فالاعضاء الذين كانوا يجلسون الى الجانب الايسر من رئيس مجلس النواب تم تسميتهم "باليساريين" والذين يجلسون الى اليمين من رئيس مجلس النواب تم تسميتهم "باليمينيين". وعلى هذا الاساس يعتبر تعبير اليمين واليسار تعبيرا مؤقتا يتعرض للتغيير بتغير موقع الجلوس، حيث ان يسار الامس قد يصبح يمين اليوم وبالعكس.. هذه كانت بدايات نشأة مفهوم اليمين واليسار تاريخيا في برلمان انكلترا.. اما بعد حدوث الثورة الفرنسية فقد تغير مفهوم تعبيرا اليمين واليسار واتخذ شكلا وطابعا ومضمونا سياسيا اكثر عمقا وشمولا. وبسبب مخاضات وتناقضات وتداعيات الثورة والنتائج التي افرزتها ولدت الاسباب الموضوعية والذاتية للصراع على السلطة وتوجهات الدولة الجديدة، ظهرت تيارات فكرية متصارعة داخل رحم الثورة، حيث ظهر وتكون تيار يساري ليبرالي يؤمن بمبادئ الثورة ويدعو الى الحفاظ على مبادئها، وذلك بعد ان ظهر تيار اخر يريد الارتداد بالثورة عن هذه المبادئ. ولكن هذا اليسار الليبرالي نفسه بدأ يتجه الى اليمين حيث ظهرت حركة راديكالية ديمقراطية علمانية وقفت على يسار الحركة الليبرالية ونادت هذه الحركة الراديكالية الديمقراطية بالعودة الى مبادئ الثورة الفرنسية الاولى والمساواة بين المواطنين في حق الانتخاب، ونجحت هذه الحركة واستمر نفوذها السياسي بالنمو والصعود واستقطابها للجماهير حتى عام 1940، حيث بدأ نجمها بالأفول بعد سقوط باريس بايدي القوات الالمانية النازية، حيث دب الانقسام والانشقاق في صفوف الراديكالين الفرنسيين بسبب موقف حكومة فيشي من الاحتلال النازي لفرنسا، وانهزموا في النهاية هزيمة منكرة في الانتخابات الوطنية بعد تحرير فرنسا عام 1945.
بعد قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا وقيام المعسكر الاشتراكي من الاتحاد السوفييتي ودول اوربا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية، اصبحت الاتجاهات الاشتراكية المختلفة تكون يسارا جديدا ثالثا بمضمون جديد مختلف عن المضامين المعروفة ويدخل بين هذه الاتجاهات الشيوعيون الذين يؤمنون بمبادئ الماركسية اللينينية كعقيدة سياسية لهم، حيث يعتبر هذا اليسار الجديد المرحلة الثالثة لتطور مفهوم اليمين واليسار كمفهوم سياسي. وما دام تعبير اليمين واليسار تعبيرا مطاطا لانه يتغير بتغيير المرحلة التاريخية فان اهداف اليمين واليسار تتغير تبعا لذلك حتما، اي بمعنى اخر تتغير تبعا لكل مرحلة تاريخية، ولذلك فمن الممكن القول بان اليسار يشكل تيار المعارضة يدعو لتغيير الوضع القائم، بينما يحافظ تيار اليمين على هذا الوضع، او يريد الارتداد بالوضع الى الوراء. اي بمعنى ان تيار اليسار يريد التقدم بالوضع من خلال تغييره نحو الامام ويعتبر تيارا تقدميا، بينما اليمين يريد الارتداد والعودة بالوضع الى الخلف ويعتبر تيارا رجعيا. فهكذا اتخذ تعبيرا اليمين واليسار طابعا ايديولوجيا واصبحا مفهومين مرادفين لمفهومي التقدم والتخلف اي للتقدمي والرجعي..
ويطلق الشيوعيون والثوريون في الاحزاب الشيوعية والثورية تعبيرا يساريا ويمينيا على بعض الاجنحة المتصارعة في الحركة الشيوعية والحركات الثورية الاخرى او داخل الاحزاب بحد ذاتها كما كان الحال في الحزب الشيوعي الروسي حيث كان الصراع محتدما بين ستالين وتروتسكي يدور حول مفهوم الثورة الواحدة والثورة العالمية، فكان ستالين يتهم تروتسكي باليسارية كما كان لينين يتهم كيرنسكي باليمينية. وكذلك الاتهامات المتبادلة بين الصين ويوغسلافية تدور حول هذا المعنى ايضاً فكلاهما يتهم الاخر باليمينية او اليسارية. ويمكن تطبيق المعيار نفسه على الاحزاب الوطنية والقومية في حركات التحرير الوطني في بلدان العالم الثالث، كما هو الحال في حزب المؤتمر الهندي حيث ظهر فيه جناح يساري يطالب بالتوجه الى تبني الاشتراكية وجناح اخر يميني يعارض التوجه الى الاشتراكية.
كذلك الحال في حزب البعث العربي الاشتراكي حيث تعرض الى الانشقاق في صفوفه عام 1963 بعد انهيار إنقلاب 8 شباط 1963 بسبب مطالبة البعض من اعضائه تبنى الاشتراكية العلمية ورفض البعض الاخر لذلك، هذا الصراع تمخض الى ظهور جناح يميني كحزب البعث العراقي وجناح يساري كحزب البعث السوري. وهناك الكثير من الامثلة في بلدان العالم الثالث المتحررة من الاستعمار حديثاً في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، حيث ظهرت في حركاتها واحزابها التحررية اجنحة مختلفة يمينية ويسارية تتصارع فيما بينها حول توجهاتها الفكرية ومنطلقاتها النظرية حول اسس بناء الدولة الحديثة المطلوب انشاؤها وشكل اقتصادها المستقبلي بين ان يكون اقتصاد اشتراكي مركزي مخطط وموجه وبين ان يكون اقتصادا راسماليا مبنيا على اقتصاد السوق الحر المفتوح. هكذا اصبح العالم مقسوما بين اليمين واليسار، فاصبح يعرف العالم الاشتراكي بالمعسكر اليساري التقدمي والعالم الرأسمالي بالمعسكر اليميني الرجعي بلغة السياسيين والمفكرين الاشتراكيين والشيوعيين والثوريين والوطنيين وغيرهم من الاتباع والانصار في مختلف بلدان العالم، وقد شهدت ساحة الصراع الفكري حول مفهوم اليمين واليسار هدوءا كبيرا بعد انهيار النظام الاشتراكي في نهاية القرن الماضي في الاتحاد السوفيتي واوربا الشرقية، وحل محله الصراع الفكري بين تيار التشدد والتطرف الديني من جهة وبين تيار قيم الحرية والديمقراطية من جهة اخرى على الساحة العالمية، هذا الصراع الدموي الارهابي الذي اصبح عراقنا ساحة نموذجية له، والذي اخذت دائرته تتوسع لتشمل الكثير من بلدان العالم من دون استثناء واخذت مخاطره تحدد التحضر واسس الحضارة الانسانية والدعوة بالعودة الى عصر شريعة الغابة والقمع والطغيان والبربرية التي لا تقيم للانسانية اي اعتبار. كان التناقض الجوهري والاساسي في القرن الماضي بين اليمين واليسار بما يمثل ذلك من مفاهيم وافكار في الفكر والفلسفة والاقتصاد. بينما اصبح الان التناقض الجوهري والاساسي بين الفكر الديني المتشدد والمتطرف وبين فكر قيم الحرية والديمقراطية وعلى ما يبدو سيسود هذا الصراع هذا القرن.
ومن خلال ما استعرضناه نستنتج ان الحركة الشيوعية العالمية باحزابها المتنوعة هي التي اعطت طابعاً سياسياً وأيديولوجياً لتعبيري اليمين واليسار في العمل السياسي وجعلت منه معياراً لتقسيم العالم فكرياً بين اليمين الرجعي واليسار التقدمي.
المصدر : موقع الحركة الديمقراطية الاشورية