Mon, Jan 7, 2013
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الثانية
"ميادة ابنة العراق": قصة حقيقية ترويها امرأة أيضا، هي الصحفية العراقية ميادة نزار العسكري، إذ تنقل جزءا "بسيطا" مما جرى عليها ومعتقلات أخريات رأتهن في الزنزانة 52 في مديرية الأمن العامة، في البلديات، ببغداد. صار هذا الكتاب أحد أبرز وثائق إدانة نظام الوحشية والخوف الذي "أخرس" الجميع في داخل العراق ولربما جزءا في خارجه. ترجم الكتاب الى لغات عدة وظهر بطبعات عدة، منها طبعة مجموعة بنغوين في العام 2004، وتقدمه "العالم" لقرائها في اطار جهد يسهم بقراءة مرحلة ليس الحاضر الذي نعيشه في تفاصيل حياتنا الشخصية والعامة إلاّ نتاجها.
الحلقة الثانية
وقفت ميادة بهدوء تنظر إلى الثلاثة الواقفين أمامها تتفحص أشكالهم المتجهمة التي تنذر بخطر يحدق بها بعيون شريرة. ولجزء من اللحظة أرادت أن تفلت منهم، أن تهرب إلى لا مكان ولا زمان لكنها وبعجالة تداعت أفكارها بجدية بسيل من الأسئلة: إلى أين المفر في هذا العراق؟
استبعدت ذلك المستحيل الواقعي وندت عنها إجابة مبتسرة:
- نعم.. أنا ميادة.
عرف أطولهم نفسه باقتضاب:
ـ اسمي المقدم محمد جاسم السعدي من مديرية الأمن العامة وهذان زميلاي... سنفتش المكان!
بحثت ميادة عن صوتها بصعوبة كأن الدهشة والفجاءة ابتلعته ثم تحشرج السؤال في حنجرتها:
ـ ما الذي تبحثون عنه؟
رفع المقدم رقبته قليلا وتأرجح جلد رقبته المتهدل يمينا ثم شمالا قبل أن يخرج كلماته بتركيز شديد كأن كل كلمة إطلاق رصاصة قاتلة:
ـ أنتِ أخبرينا!
لم تجب، بل لم تكن تدري ما يتوجب عليها أن تفعل أو تقول وهي تراقب هؤلاء الثلاثة المحشورين في توترهم كأنهم على عجل في اقتياد رهينة أو طريدة، ثم اندفعوا يمزقون توازن مكتبها وبهاء تنظيمه وترتيبه بحثا عن شيء ما.
أُفرغت الصناديق... قُلبت الكراسي ومُزقت أحشاؤها... فُتحت الهواتف بالمفكات وفحص ما بداخلها.
ومن ثم بدأوا برفع الكومبيوترات.
للحظة لم تر ميادة سوى خراب حاقد سد مساحة الإبصار بالأسود الفاحم، فشعرت أن مقلتيها غرقتا في عتمة أبدية برغم أنهما انفتحتا على سعتيهما دهشة وألما، كأن فؤادها يستجير بجحيم دانتي والمعري عن رمضاء هذا العبث السوريالي الحارق لكفاحها ولمستقبل ولديها ولغدها. بل أن الزمن توقف عند آن الجناة وعبثية اللامعقول بدمٍ بارد.
كيف؟ كيف يتسنى لهؤلاء أن يدمروا أحلامها بلحظة نزق أو وشاية، عم يبحثون؟ ماذا يخفي مكتب كهذا أوراقه قبالة الشمس تتألق والأنامل الخضر التي ترصف الحروف أو تصمم الجمال، لم تألف يوما عداوة الحياة... إنها في صلب أكف حانية ونظيفة تعرق، صحيح، لكنه العرق الشريف، عرق الكد اليومي والمعيش الكريم على تواضعه.
ماذا تفعل ميادة في قادم أيامها؟ كيف تعوض هذا الذي دمروه بقصدية شريرة؟ من أين تأتي بالتمويل؟
داخت ودارت بها الدنيا سبع دورات عجال ثم قذفت بها من عل فتناثرت أحلامها وآمالها واحترقت مثل هشيم وسط حريق ضارٍ.
آه.. ميادة ما هذا الصباح المكفهر؟ وإلى أين تؤدي رياحه السموم؟
تعلم ميادة أنها لن تجد التمويل الكافي لتعويض ما تمت مصادرته وتدمير ما تبقى من مكتبها.
لاحقت بعينين مثل الجمر أجهزة مكتبها الأنيق تُرمى بقسوة ولامبالاة في حوض سيارتي التويوتا كورولا ذات اللون الأبيض... السيارة المفضلة لدى دوائر المخابرات والأمن العامة العراقية.
وبيأس، لم تشعر إلا وهي تجعد أوراق الطالب التونسي بين كفيها وترقب بلا حول ولا قوة هؤلاء الأغراب الأجلاف يدمرون حياتها ومستقبلها.
ثم تبادلت نظرة مسرعة مع العاملين في مكتبها. كانوا قد ُرصوا في ركن من المكتب. لا يجرؤ أحدهم على التنفس؛ وجه نهلة بدا شاحبا وشفتاها ترتعشان خوفا وهلعا. أما الطالب التونسي فراح يدلك يديه ببعضهما وقد تعرقتا من الذعر وارتسم على وجهه شعور كأنه الندم على اللحظة التي دخل فيها هذا المكتب.
لم يساور ميادة أي شك في أنها ستكون رهينة هؤلاء في اللحظة التالية، وستدخل عنوة إحدى هاتين السيارتين المشؤومتين.
فقدت تواً أي حدود للتردد، فراحت تتوسل بمقدم الأمن بأن يسمح لها بمكالمة هاتفية واحدة لإعلام طفليها بالمكان الذي ستؤخذ إليه. نظر إليها المقدم السعدي باحتقار شديد ونطق بسطوة الظالم المستبد وبحدة: كلا!
لم يمنعها جلفه من أن تكرر السؤال بلطف:
ـ أرجوك يجب أن أطلب ولديّ على الهاتف.. فليس لديهما أحد سواي.
إلا أن توسلاتها راحت سدى وأي رجاء يفيد بمثل هؤلاء الذين لم يعرفوا الرحمة ولا الحقوق ولا معنى الأمومة وقلقها.
جاء رفضه أقسى وأكثر زجرا وحدة، ثم بإشارة منه سرعان ما أحاط بها الرجلان المرافقان لمقدم الأمن هذا. فاقتاداها خارج المكتب باتجاه السيارتين.
أدارت ميادة رأسها ونظرت إلى الباب الخارجي للمكتب كأنها تودع عزيزا غاليا متسائلة في أعماقها ما إذا كانت سترى هذا المكتب مرة أخرى أم لا.
ومن المقعد الخلفي لسيارة التويوتا المنحوسة رأت ميادة المارة وهم يختلسون النظرات السريعة المتعاطفة نحوها.
راحت السيارة تلهب إسفلت شوارع بغداد مسرعة وسط جو أصفر مكفهر ورياح عاتية مغبرة وثقيلة بالغبار. ركزت ميادة نظرها على هذا "الطوز" الخانق الذي يكاد يحجب الرؤية، لا تدري كيف تداعت أفكارها إلى تلك الأيام الشبيهة حين كان جل همها أن تحول دون دخول الأتربة والأغبرة حنايا البيت إذ تسارع لتغطية النوافذ والأبواب والأثاث بالشراشف والأغطية المضافة حتى تنحسر موجة الأتربة تلك... وبعدها مثل ربات البيوت جميعا، تنهمك بحملة تنظيف شاملة.
خارج نافذة السيارة كان السابلة العراقيون يتعثرون بثياب مهلهلة ونفسيات مدمرة، تلتصق نظراتهم بالأرض إملاقا وفقرا بعد أن كانوا شعبا فخورا برفاهه وبزهو كرمه. الآن يمشون على الأرض الأغنى وهم الشعب الأفقر!
قبل عشرين عاما كان العراق مزدانا بالأمل والوعد، تتذكر شوارع بغداد الجميلة والمحال والمنازل الرائعة على ضفاف دجلة، كان مستقبل البلاد مشرقا ومطمئنا، حتى حل طاعون صدام حسين إذ عسكر الحياة وجعل كارزماه طاغية أوحد، راحت ثروات العراق تذبح من وريد حرب إلى وريد حرب أخرى، سالت الدماء وتهدمت المدن الجميلة وشاخت وسط العوز والقهر والأسى والأذى، تهدّم الوطن تدريجيا بدل أن ينهض وتفرق البشر فصاروا بين الأسر والموت والشتات ثم مات النسل وتشوه وجف الضرع ونضب ماء الحياة.
في دوائر الحكومة تلوثت النفوس يوم ساد الفساد والرشوة، وأضحى العراقيون بين حرب وأخرى يقفون في طوابير طويلة للحصول على حصص من الرز العفن والسكّر الشحيح والسمن الممرض ونثار من بقوليات لا تغني ولا تسمن، مقابل النفط في برنامج رتب لهم وفق قرار الأمم المتحدة الرقم 661 وَلّدَ جيشا من المرتزقة وتجار السلطة والمرتشين الذين ناصروا الظالم ضد شعبه وأسهموا في المآل التعيس الذي صارت إليه حياة الناس وأحوال أسرهم وأطفالهم.
في ذلك الحين من الدهر العصيب لحق ميادة ما لحق العراقيين من تدهور في معيشهم. حتى والدة ميادة، سلوى الحصري، المرأة الصلبة الذكية التي كانت تدعم قضية العراق، لم تستطع أن تصمد طويلا تحت طائلة هذا القهر الجماعي، وسرعان ما استسلمت وغادرت العراق لتعيش بقية أيامها في الأردن المجاور.
متاعب ميادة زادت أذى بعد انفصالها عن زوجها في العام 1988 مثل كل العراقيين في تلك الحقبة الزمنية الصعبة.
بعد سنة من هذا التاريخ تركت ميادة عملها في الصحف العراقية واتجهت نحو العمل الحر فأسست مطبعة خاصة بها، إلا أن مشروعها الذي كان ناجحا في البدء واستمر لأكثر من ثماني سنوات حتى في ظل الحصار، انهار تماما بعد أن ترنح السوق وتداعى تحت وطأة توقيع اتفاقية النفط مقابل الغذاء مع الأمم المتحدة.
وهكذا وجدت ميادة نفسها في سوق عمل يتسم بالبطالة والكساد مع طفلين كان عليها أن تعيلهما لوحدها، فأوشكت على الانهيار إلا أن معجزة صغيرة حدثت كأنها استجابة لدعواتها التي لم تنقطع.
هذه المعجزة تجلت على هيئة فرصة عمل مع منتج بريطاني هو (مايكل سمكن) كان يعمل في القناة الرابعة البريطانية، زار بغداد لإعداد مسلسل بعنوان "الحرب من أجل الخليج" وكان بحاجة إلى مساعدة والدة ميادة، سلوى الحصري، لتسهل له اللقاء بنائب رئيس الوزراء طارق عزيز ووزير الدفاع سلطان هاشم، بفعل علاقات سلوى واسعة النطاق في العراق. وهكذا تم ترتيب لقاءات صحفية عدة للبرنامج من بينها تحديد لقاء سمكن مع طارق عزيز على مدى يومين، ومع وزير الدفاع العراقي وسعد قاسم حمودي المسؤول عن العلاقات الخارجية في المجلس الوطني آنذاك وعضو مكتب الثقافة والإعلام القومي، وعبد الرزاق الهاشمي سفير العراق الأسبق في فرنسا ومسؤول العلاقات الخارجية في المنظمات الشعبية العراقية.
وقد عملت سلوى كذلك على تشجيع سمكن للقاء ابنتها ميادة، وهكذا زار الصحافي البريطاني منزل ميادة الكائن في منطقة الوزيرية وطلب منها أن تعينه في إيجاد مترجم وصحفي لمساعدته في برنامجه.
وبعد أن تحدث سمكن مع ميادة طلب منها ان تقوم هي بهذه المهمة بفعل إتقانها للإنكليزية وخبرتها في العمل الصحفي، فاتفقا على أجورها بالدولار ونجح برنامج مايكل سمكن نجاحا كبيرا.
وهكذا تمكنت ميادة من العودة إلى سوق العمل مرة أخرى بعد أن خسرت كل شيء في المطبعة.
وبعد مضي شهور من العمل الدؤوب، صار مشروعها الجديد يدر عليها الأرباح، واعتقدت بالفعل أن الأيام الأسوأ في حياتها ولت إلى غير رجعة.
الآن أدركت كم كانت متسرعة وغير صائبة في نظرتها للأمور، فمنذ أولى سنوات حكم حزب البعث في العراق كانت الحكومة البعثية ترتاب بشركات ومكاتب الطباعة في العراق كلها، وكان كل مكتب طباعي مرشحا في نظر حزب البعث وأجهزة الأمن والمخابرات لأن يكون مصدرا للمنشورات المضادة للحكومة، لذا وضعت قوانين صارمة ومحددات لجميع من في السوق لأنهم، في يقينها، في زاوية الشك والريبة حتى ثبوت العكس، وبرغم محاولتها أن تبقي أعمالها بعيدة عن الأمور السياسية، فأن البراءة وحدها لم تكن كافية لتوفير الأمان للمواطن العراقي في ظل حكم البعث المستبد.
اليوم، اليوم تماما، ها هي تدرك بحكم اليقين أنها أصبحت متهمة، أكيد، ولا تدري أي مصير ينتظرها.
نظرت ميادة خارج زجاج نافذة السيارة وشعرت بهلع لا مثيل له. فهذا هو درب "الصد ما رد" الدرب الذي لا عودة منه كما يقول المثل العامي العراقي.
وأدركت أن الطريق المتبع سينتهي بها إلى مركز الأمن العام المعروف بسجن البلديات، وهو أكبر مركز لهذا الجهاز ويكنى شعبيا بالامن العامة، وهو من فروع الأجهزة القمعية المكرسة للإمساك بزمام الأمور بقبضة من حديد داخل العراق.
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الاولى
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الثالثة