عَلم شامخ من أعلام الإسلام، وإمام من أئمة الفقه الكبار، أصحاب المذاهب المتبعة، وأحد أفراد الدنيا علمًا وذكاءً، ونبلًا ورفعة، وسخاءً وكرمًا، أجمعوا على أنه نظير الإمام مالك في الفقه، وعديله في الاجتهاد، وأنه كان لمصر مثل مالك للمدينة، لا يفتي ومالك في المدينة، ولا يفتي وهو في مصر، وهو أعظم جاهًا من مالك، وأكثر مالًا وأوسع دينًا، بيدّ أن الله قيض لمالك من دون علمه، وكتب مسائله، وحرر مذهبه فصار أحد المذاهب الأربعة الباقية، وذهب مذهبه هو فيما ذهب من المذاهب التي كانت يومًا معروفة متبعة مقلدة، وكاد يُنسى اسمه فلا يعرفه إلا العلماء، على حين يعرف أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد كل مسلم، أنه الإمام العالم الليث بن سعد الذي جمع الله له الدنيا والدين، والجاه والتقى، وكان سيد مصر، وفقيهها ومحدثها، وكان أمرُهُ قبل أمر الولاة، وحكمه فوق حكم القضاة، حيث كان والي وقاضيها وناظرها، من تحت أوامره، ويرجعون إلى رأيه ومشورته.

نسب الليث بن سعد ومولده
هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن، إمام أهل مصر في الفقه والحديث، وُلِد في قرية قَلْقَشَنْدَة، وهي إحدى قرى محافظة القليوبية بمصر سنةَ 94هـ= 713م.

نشأة الليث بن سعد ورحلته في طلب العلم
نشأ الليث بن سعد طالبًا للعلم، حريصًا على أن يتلقاه من الشيوخ والعلماء، فطاف البلاد كثيرًا لأجل هذا الأمر، ولم يشغله غنى أهله عن طلب العلم والرحلة به، لا كما يرحل أكثر الطلاب الآن إلى أوروبا وأميركا، بل كما يرحل السلف ليتلقوا العلم، ويتلقوا قبله الدين والتقى، والسلوك الإسلامي، ويجتمعوا بالعلماء العاملين، الصالحين المصلحين، وقد أخذ عن علماء مصر، ثم حج ولقي أئمة الحجاز عطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة بن الزبير، وقتادة، وأمثالهم، ثم رحل إلى العراق فأخذ عن علمائه.

منزلة الليث بن سعد في الحديث والفقه
بلغ الليث بن سعد منزلة في الحديث والفقه شهد له فيها الكثير من كبار العلماء والفقهاء: فقال الشافعي: الليث أفقه من مالك، ولكن أصحابه لم يقوموا به (أي لم يدوّنوا علمه فضاع مذهبه واندثر)، وقال أحمد ابن حنبل: ما في المصريين أثبت من الليث، وكان يقول: الليث ابن سعد، ما أصح حديثه، وروى عنه مالك ولم يصرح، وكل ما كان في كتب مالك من قوله (وأخبرني من أرضى أهل العلم) فإنما يعني به الليث بن سعد.. وكان الشافعي يقرأ في درسه مسائل الليث، فمرت مسألة فقال أحد الحاضرين: أحسن والله كأنه كان يسمع مالكًا يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب: بل كأن مالكًا يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا إله إلا هو ما رأينا أفقه من الليث.

وقال الفضل بن زياد: قال أحمد: ليث كثير العلم، صحيح الحديث، وقال ابن سعد: كان الليث قد استقل بالفتوى في زمانه، وقال ابن وهب: لولا مالك والليث لضل الناس، وقال يعقوب وزير المهدي: قال لي أمير المؤمنين لما قدم الليث بغداد: الزم هذا الشيخ فقد ثبت عند أمير المؤمنين أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه، وقد كان لليث بن سعد كل يوم أربعة مجالس، مجلس يأتيه فيه الوالي ونوابه يسألونه ويسترشدون برأيه، ومجلس لأصحاب الحديث، ومجلس للفقه، ومجلس لأصحاب الحاجات.

منزلة الليث بن سعد في الجود والكرم
كان دخل الليث بن سعد من أملاكه ما بين عشرين وثمانين ألف دينار في العام، ولم تجب عليه زكاة قط، لأنه لم يكن يحول عليه الحول وعنده منها شيء، كما كان لبَّاسًا، ويعيش معيشة الملوك، وقد قُومت ثيابه مرة ودابته بثمانية عشر ألف درهم، أي بألف دينار ذهبي، وكان إذا رحل، رحل بثلاث سفائن، سفينة له ولأضيافه وتلاميذه، وسفينة لعياله، وسفينة لمطبخه وخدمه.

وقال كتابه (سكرتيره) عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة، فكان لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس ولا يأكل إلا الألوان الكثيرة باللحم الوافر، وكان كل من جاءه من التلاميذ يأكل وينام وينفق على حسابه، لا يكلفه من ماله شيئًا، وإذا أراد السفر، أعطاه نفقته وزاده، وكان يتخذ الفالوذج[1]والحلوى لأصحابه، ويضع فيها الدنانير، ليرغبهم بذلك في الأكل ويغنيهم، وكانت له موائد عامة للناس، يطعمهم فيها في الشتاء والصيف.

وكان يعطي العلماء رواتب دائمة، منها مائة دينار للإمام مالك كل سنة، وكتب إليه مرة أن عليه دينًا فبعث إليه بخمسمائة دينار، وكتب مرة أخرى: "إني أريد أن أزوج بنتي فابعث لي بشيء من عُصفُر"[2]، وكان يومئذٍ العُصْفُرُ غاليًا، فبعث إليه بثلاثين حملًا محملة عُصفُرًا، فصبغ منه لابنته وباع منه بخمسمائة دينار، وبقيت عنده فضلة..

ولما حج أهدى إليه الإمام مالك طبقاً فيه رطب، فأخذه ورد الطبق وفيه ألف دينار، ولما احترقت دار ابن لهيعة (قاضي مصر ومحدثها) أعطاه ألف دينار، ووصل منصور بن عمار القاضي بألف دينار، وأتاه مرة سائل فأمر له بدينار، فأبطأ الغلام فجاء سائل آخر، فقال له الأول: اسكت، فسمعه الليث، فقال: مالك وله! دعه يرزقه الله، وأمر له بدينار آخر.

قال منصور بن عمار (القاضي): كنت يومًا عند الليث فأتته امرأة ومعها قدح فقالت: يا أبا الحارث زوجي مريض وقد وُصف له العسل، قال: اذهبي إلى الوكيل فقولي له يعطيك، فجاء الوكيل يساره فقال: اذهب فأعطها مطرًا (أي مئة وعشرين رطلًا) إنها سألت بقدرها فأعطيناها بقدرنا، وقد اشترى منه قوم ثمرة بستان له ثم ندموا واستقالوه (طلبوا الرجوع عن البيع)، فأقالهم، ثم استدعاهم فأعطاهم خمسين دينارًا، وقال: إنهم كانوا أمّلوا ربحاً فأحببت أن أعوضهم.

لقد كان الليث بن سعد، نموذجًا لطراز من العلماء، نتمنى أن نعود فنرى أمثاله في هذا العصر، نتمنى أن نرى علماء يكون لهم مثل هذا العلم، وهذه الأمانة في نقله، وهذا العقل الكبير، وهذه الكياسة في معاشرة الملوك، وهذه المنزلة وهذا الجاه، وأن يكون لهم مثل هذا الكرم.

وفاة الليث بن سعد
توفي الليث يوم الجمعة 15 من شهر شعبان سة 175هـ= 16 من ديسمبر 791م، وعمره حينئذ إحدى وثمانون سنة على التمام، وقال خالد بن عبد السلام الصدفي: شهدت جنازة الليث مع أبي، فما رأيت قبلها ولا بعدها مثلها، ولا أظن أنه سيكون أعظم منها أو أكثر من أهلها، ورأيت الناس كلهم في جنازته سواء في الحزن يعزي بعضهم بعضًا ويبكون، قلت: يا أبت: كأن كل واحد من هؤلاء هو صاحب الجنازة! فقال: يا بني كان عالـمًا كريمًا، كبير العقل، كثير الأفضال، يا بني، لن ترى مثله أبدًا[3].

قصة الإسلام
[1] الفالوذج نوع من الحلوى يصنع من الدقيق والسكر، وقيل من السمن والعسل.
[2] العُصْفُرُ: نوع من النبات يُستخرج منه صبغ يُصبغ به الثياب، كما يستعمل زهره تابلاً في الطعام.
[3] شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، 6/ 342- 355، والشيخ علي الطنطاوي: رجال من التاريخ، دار البشير للثقافة، دار المنارة، جدة، الطبعة الأولى، 1418هـ= 1998م، 1/ 124- 130.