Mon, Jan 7, 2013
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الاولى
تستهل "العالم" العام 2013 بنشر كتاب جديد مترجم للعربية لأول مرة وهو كتاب "ميادة ابنة العراق" من تأليف ميادة العسكري حفيدة أول وزير دفاع عراقي، الصحفية العراقية المقيمة حاليا في الامارات العربية المتحدة.
الكتاب الذي صدر باللغة الانكليزية وترجم الى لغات عديدة تروي فيه العسكري، حكايات عن سجن النساء في "الأمن العامة" ضمن مرحلة زمنية هي الأصعب في عراق تسعينيات القرن الماضي عبر تجربة شخصية غاية في الإثارة والأهمية.
الحلقة الأولى
كان صيف عام 1998 ساخنا كما يتذكر الكثير من العراقيين. وكان صدام حسين يلعب لعبة القط والفأر مع الأمم المتحدة ومفتش الأسلحة الاسترالي الأصل ريشارد بتلر وفريق التفتيش الخاص به.
اما نحن العراقيين، فقد كنا نعيش في حال لا نحسد عليه من الضغط النفسي والمعيشي. من منا لم يشعر بانه محشور في فخ لا مهرب منه؟
وفي تموز 1998 جاءت جين سسون الى بغداد، لترى الحال الذي وصل إليه هذا الشعب الذي مضى على حصاره سبع سنوات عجاف يباب.
اتصل بي السيد شاكر الفلاحي مدير المركز الصحفي في مكتبي وقال: تعالي بسرعة.
اعتقدت لأول وهلة باننا سنقصف كما كان يحدث عندما يتوافد الصحفيون على العراق فجاة، وكما حصل بعد ان غادرت جين العراق بعد بضعة اسابيع.
سالته: هل جاء جوليان مانيون وجماعة الاي تي ان، في اشارة مني الى التلفزيون الرابع البريطاني الذين كنت اعمل معهم
قال لا المسالة غير ذلك!!
وما بين شارع المتنبي ووزارة الاعلام أخذتني أفكار كثيرة، ففي تلك الايام كنت اسير على حبل دقيق وخطر جدا، كنت أطبع الكتب الدينية لبعض المراجع الدينية في النجف، وكتب من أمثال مفاتيح الجنان وضياء الصالحين والصحيفة السجادية والتحفة الرضوية في مجربات الإمامية وغيرها من الكتب الممنوعة في عراق البعث انذاك، وفي الوقت نفسه كنت قد توقفت عن العمل الصحفي منذ فترة طويلة جدا ولم يبق من علاقتي مع وزارة الاعلام سوى العمل مع جماعة الاي تي ان والذين اتصلوا بي بعد ان قمت بإعداد برنامج مع المنتج مايكل سمكَن عام 1996 وبدون استحصال موافقة من الأجهزة الامنية العراقية انذاك.
عملت مع جين كمرافقة ومترجمة وحسب طلبها بحثنا سوية عن امراة عراقية قد تصلح لان تكون محوراً لمادة كتاب عن العراق تحت الحصار الاقتصادي.
اخذت جين الى منزل امراة أعرفها تعمل خبازة، وهي خريجة كلية الادارة والاقتصاد، الا ان قصتها لم تثر اي رد فعل في داخل جين، ذهبنا الى ملجا العامرية وبكت جين كثيرا وزرنا مستشفى الأطفال في الاسكان عدة مرات حيث الاطفال المصابين بأنواع مختلفة من السرطانات، وعندما ادركت جين بانها لم تجد ما كانت تبحث عنه في بغداد، صرنا نمضي الوقت في مكتبة بيتنا، نقرا سوية ونزور الأسواق التراثية وبعدها سافرت جين الى الولايات المتحدة عبر الأردن، ولم استغرب كثيرا عندما اتصلت بي جين من عمان وقالت، انت مدركة بان علاقتنا هذه لمدى الحياة؟ قلت لها نعم، لا يهم ان كنت مسلمة او مسيحية او عربية او اميركية... المهم اننا بشر، ونؤمن بالخالق الواحد عز وجل.
توطدت علاقتي بـ(جين) كثيرا خلال العام الذي سبق توقيفي في الامن العامة، وخلال تلك الفترة كانت تصلني منها رسالة مع أي صحفي اجنبي يأتي الى بغداد، وعبر البريد وتلفون واحد او أكثر في الاسبوع.
وفي 19/7/ 1999 تم توقيفي، وحين اطلق سراحي بعدها.. اتصلت بجين هاتفيا وقلت لها باللهجة الاميركية الدارجة للسود في نيويورك وكدعابة "كنت في العلبة".
كانت جين قد قلبت الدنيا لتعرف مكاني واتصلت بوالدتي والسفارة الاميركية في عمان وأصدقاء لها في مرجعيون – لبنان، وطلبت منهم الذهاب الى عمان للالتقاء بوالدتي ومعرفة سبب اختفائي، فعندما قلت لها تلك الجملة ادركت ما قد حصل، وقلت لها: سازور قبر والدي لاودعه
عندها ادركت جين بانني ساترك العراق الى غير رجعه بطريقة ما.
عندما وصلت الى عمان في ايلول من نفس العام، رن جرس هاتف منزل والدتي وكانت جين على الطرف الاخر من الخط تصرخ وتضحك وكأن السماء تمطر عليها فرحا وسروراً.
وعندها فقط بدات مرحلة جديدة من علاقتي بجين ساسون ابنة الجنوب الاميركي البسيط المتواضع الذي يحب البشر بطريقة عجيبة.
في عمان بدات مرحلة جديدة من علاقتي بجين حيث تواصلت الايميلات اليومية بيننا وصولا الى أيلول 2002 كانت صداقتنا قد أخذت قالبا راسخا كالاسمنت.. وعندما أعلن الرئيس الاميركي جورج بوش في ذلك المساء الايلولي عن آخر فرصة لصدام وبداية عد تنازلي نحو العام الجديد، اتصلت بي جين وقالت ما رايك الان؟
عرفت فورا بانها تعني المضي بكتابة ما مررت به في سجن البلديات عام 1999 في الأمن العامة العراقية
قلت لها: لتس دو ات.
قالت: لتس غو.
وبدات جين بوضع خطة العمل، علينا ان نغطي مساحة ما حصل مع قصة النسوة اللواتي شاركتهن الزنزانة وتاريخ العراق الحديث من خلال جدي جعفر العسكري وجدي لأمي ساطع الحصري، وخال والدي وزوج عمته في آن.. نوري السعيد.
لم تكن المهمة سهلة الا أن الكتاب اكتمل بعد ان تورمت اصابعي من نقل قصتي وتورمت أصابع جين من كتابة القصة لغرض نشرها في الولايات المتحدة وبريطانيا وسائر الدول الاوربية.
وهكذا ولد الكتاب قبل دخول القوات الأميركية الى العراق ببضعة أشهر قبل تحرر وطني من حكم حزب صدام الدموي الذي جثم على صدورنا طوال 35 عاما من الاساءة والقهر والدم والدموع.
هل حالنا اليوم افضل من تلك الايام؟
سؤال تصعب الاجابة عليه للوهلة الاولى
ولكن لنتذكر جميعا اننا اليوم نمتلك املاً وشمعة تضيء نفقنا المظلم الذي سنصل الى نهايته المشرقة من غير شك
اما في تلك الايام، فكنا في غياهب جب البعث غارقين، لا أمل ولا شمعة ولا بصيص ضياء يصل الينا.
لن نحكم بصدام اخر
العراق حر
ولو طال السفر وبعدت الشقة
تنويه مهم
تم تغيير كل اسماء السيدات اللواتي شاركنني الزنزانة رقم 52 في مديرية الامن العامة في "البلديات" حفاظا على خصوصياتهن.. اما الاحداث فهي صحيحة، وكما حدثت في زمن صدام حسين الاغبر.. لا أعاده الله علينا في يوم من الايام.
الفصل الأول
نساء الزنزانة 52
سجن البلديات – بغداد
لم يكن مثل أي صباح أو أنه غاير الصباحات وخالفها.. تلك التي اعتادت أن تمضي فيها ميادة العسكري بتوقيت يومي منضبط.
الساعة الثامنة وخمس وأربعون دقيقة يوم الإثنين التاسع عشر من تموز.. 1999 تقود ميادة سيارتها باتجاه شارع المتنبي المتفرع عن شارع الرشيد في بغداد، حيث مكتبها وسط تلك المكتبات التي دونت تاريخ بلد عريق طالما تأملت وثائق خطيرة عنه في ثنايا بيت جدها.
هذا الصباح كعادة صباحات بغداد، وبخاصة شارع الرشيد يرسم لوحة سريالية للازدحام، لكن صبر ميادة منقوش مثل ذاكرتها بعناية وهي تتقدم نحو مكتب التحضير الطباعي الذي تملك.
ميادة تعلم أن يومها سيكون زاخرا ومكتظا بالعمل، فقد اعتادت تدوين الطلبيات التي تتدفق على مكتبها، ومن مدونات مفكرتها، تعلم كذلك حجم طلبيات الأمس وما تقتضيه من جهد مضاعف لإنجازه في نهار العمل هذا منذ بكوره حتى مغيب شمسه، وربما اضطرت إلى تمديد ساعات العمل حتى الليل.
منذ بدأت مشروعها هذا قبل عام، تحرص على الإيفاء بالتزاماتها إزاء الزبائن وهو تقليد بالحرص والانضباط تداولته مذ بدأت خطاها الفتية في عالم الصحافة والكتابة والمطبوعات لذا حرصت على اقتناء أفضل ما في السوق من أجهزة الحاسوب الخاص بالتصميمات الطباعية، والطابعات الأجود مما هو متاح ومسموح به في عراق زادت فيه قائمة الممنوعات كلما زاد عمر النظام.
نتيجة لحرصها وصدقية تعاملاتها في سوق العمل؛ كان لدى مكتبها عمل إضافي دائم من التصاميم الصناعية، وأشكال العبوات المختلفة للمواد المصنعة محليا، جوار طباعة نصوص ورسائل جامعية وتنضيد كتب طالما هي مقرونة بختم موافقة رقابة المطبوعات بوزارة الإعلام العراقية.
أحبت ميادة هذا الحقل الذي طالما أطلقت عليه بحبور متوازن وهي تضحك بنبرة خجلى: "حضارة الجمال".
الكتابة والكتاب والتصميم فنون تعشقتها وراهنت على محبتها فعقدت معها صداقة وفية.
كانت تقول:
-هل اشتكى منك كتاب وأنت تقرأ فيه حتى وإن رميته هنا أو هناك فحين تعود إليه يفتح لمقلتك وقلبك صفحات كنوزه برضا تام وطيب خاطر !
وتضيف :
- حسبه أنه خير جليس في الزمان ! وتضحك عيناها بتلك الزرقة المطمئنة..
نظرت ميادة الى ساعتها الوقت يمرق سريعا مثل سهم فانطلقت حول ركن الشارع ثم نظرت مليا إلى السماء خلال الزجاج الأمامي للسيارة فشعرت بنثيث من كآبة عبرت روحها مثل غيمة.
كان الغبار يغمر فضاء الرؤية كضباب لندن الحزين... إلا أنه في تموز العراق يثقل على النفس بحرارة و عتمة وتلك الحمرة الرملية التي تضفي عليه مسحة من حدس الاختناق. العراقيون يعرفون مواسم هذه الأغبرة والأتربة ويطلقون عليها مسمى نادر: "طوز" والطوز في تموز يدفع إلى لهفة حارقة في الهروب خارج سواتره الخانقة، وكم شعرت ميادة باشتياق للهروب من تموز وحره وطوزه إلى جبال لبنان كما اعتادت في سنوات الرفاه إلا أن "الحصار" الذي فرضه النظام جعل الاصطياف في بلدان الأرض أمنية غالية، لأنه خلف معظم العراقيين يبابا قاحلا في المال والأحوال ولم يعد بمقدورهم التمتّع باجازاتهم خارج بلاد النهرين اللذين نضبت مياههما كذلك أو تلوثتا . ممنوع أن نحلم كما ينبغي بتلك المتع الصغيرة مثل رحلات الاستجمام بعد أن تحوّل ناس العراق إلى حشود تلهث وراء الخبز الحافي..
الحروب استبدلت المسرات بالأوجاع عن عمد!
ميادة التي ولدت في لبنان واحبته وتآلفت مع معناه في أكثر من زمن وحالة أزاحت أمنية الهروب إلى جباله وبحره وغيمه السابح في الذكرى مثل تيجان جنيات محبوبات وحوريات جنان صارت كالأماني الأخرى مركونة فوق رفوف الزمن وها هي اللحظة تركز على التسابق للحصول على موقف تصف فيه سيارتها قريبا من الرصيف المؤدي إلى مكتبها.
ترجلت من صهوة أفكارها ومضت خافضة جناح الأمنيات ورأسها معا تحاشيا لغبار تموز ورياحه السموم ، دنت من مكتبها فشعرت بامتنان لامس شغافها فالباب لم تكن مواربة ومجموعة العمل حاضرة تماما :
طيبة ملتزمة مثقفة ومتفانية هذه المجموعة ومباركة (قالت مع نفسها) وأحست كأن يدا حانية تعمد العمل بالمحبة.
مسحت المكتب بنظرة سريعة، لكن خبيرة، ألفت كلاً من حسين وأحمد ووسام خلف وحواسيبهم .
ومن المطبخ الصغير في نهاية المكتب تهادت (نهلة) تحمل فنجانا من القهوة لتقدمه لميادة بعد أن ابتسمت لها ردا على مبادرتها بالسلام.
قهوة الصباح، الفنجان الأول برائحته ودفئه يعيد في ذهنها صبوات البيت ولبنان والعمل الأول في الصحافة، للذكرى نكهة توازي الأيام الحلوة. همت ميادة بارتشاف قهوتها حين دنا منها حسين وشيرمين يتساءلان ، في الآن ذاته، عما تكلفهما به من تصاميم جرافيك..
في التوّ ولج باب المكتب طالب عربي من تونس، حاملا بين يديه ملخص رسالته الجامعية.
سلم، رد الجميع السلام وأردف:
- أرسلني أبو حيدر من مكتب الفردوس الذهبي وأخبرني أنكم تترجمون ملخصات الرسائل من العربية إلى الإنكليزية على الحاسوب.
تناولت ميادة أوراق الطالب العربي لتلقي نظرة عليها وفجأة مرق عبر الباب ثلاثة أشخاص متجهمين، قال أطولهم موجّها كلامه إليها:
- من بينكم هي ميادة نزار جعفر مصطفى العسكري؟
دهشت ميادة لسؤاله فثمة عدد قليل من الناس من يعرف اسمها الخماسي كاملا بهذه الصورة، بخاصة وأن (مصطفى) اسم والد جدها لم تكن لتستخدمه إلا فيما ندر برغم اعتزازها به، كان مثل جدها عسكريا برتبة كبيرة في الجيش العثماني.
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الثانية
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الثالثة