نص من مجاز القرآن لأبي عبيدة مَعْمَرِ بن المثنّى، المتوفى 210 هـ
قال رحمه الله ( 1/ 9):
"ومَنْ مَجَازِ ما جاءَ لَفْظُهُ لَفْظَ الجميعِ الذي لَهُ واحدٌ منهُ، ووقَعَ معنى هذا الجميعِ على الواحِدِ: {الذينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران 173]، والناسُ جميعٌ، وكان الَّذِي قال رَجُلًا واحِداً. {أَنا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم 19]، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر 49]، والخالقُ اللهُ وحدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ."
هكذا جاء النصُّ الذي حقّقه د محمد فؤاد سَزكين، رحمه الله، معتمدًا عدة نسخ، وإيقاع الجمع على الواحد من سَنَنِ العرب في كلامها، ومنه ما جاء في آية آل عمران حسب سبب نزولها، فقد جاء في التفسير الكبير للرازي: "وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْوَاحِدُ قَوْلًا وَلَهُ أَتْبَاعٌ يَقُولُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ أَوْ يَرْضَوْنَ بِقَوْلِهِ، حَسُنَ حِينَئِذٍ إِضَافَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِلَى الْكُلِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [الْبَقَرَةِ: 72] {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [الْبَقَرَةِ: 55]، وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ أَسْلَافُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ لِمُتَابَعَتِهِمْ لَهُمْ عَلَى تَصْوِيبِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَكَذَا هَهُنَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ الْقَوْلُ إِلَى الْجَمَاعَةِ الرَّاضِينَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ"
ولا مشكلةَ في استشهاد المؤلف بهذه الآية، ولا في استشهاده بقوله تعالى{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، بما أنّ (نا) الفاعلين ونحن تستعملان للمعظم نفسه حقيقةً أو ادّعاء، أو المعظَّم في نفسه، وأنتم وأنتنَّ المنفصلين وكُمْ وكُنَّ المتصلين، لتعظيم المخاطب لَباقَةً أو طَمَعًا أو هَيْبَةً، أو نحو ذلك، وأمَّا هُمْ وهنّ منفصلين ومتّصلينِ فلا أظنُّهم يُعظِّمون بها؛ لعدم الحضور المستدعي لبعض سياقات التواصل ومستلزماته من احترام وخَوْفٍ ورجاء وتعالٍ وغيرها.
وهكذا فمشكلة النصّ هنا هي في ورود آية 19 من سورة مريم: {أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ}، وقد أعقبها المحقّق محمد فؤاد سَزكين برقم السورة والآية هكذا: (19/ 19)، فإثباتها من قبله وعدم التعليق عليها، يدلّ على أحدِ أمرين؛ إما أنها هكذا في النسخ فيكون خطأ النسّاخ، ولم ينتبه المحقّق لخطئهم، أو أنه أخطأ في قراءتها والنُّسَّاخ بُرَآءُ، ويتحمل المحقّق تبعة ذلك في الحالتين.
أمّا المؤلفُ فلا ناقةَ له ولا جَمَلٌ في هذا، فيما أرجح، والله أعلم.
وبناء على ما تقدّم ولأني أعتقد أنّ المؤلف قصد (نا الفاعلين) والإخبار عنها بالمفرد = أذهبُ إلى أنّ الشاهد المقصود المناسب لجزء من المرسوم في النُّسَخِ هو قوله تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} من قوله تعالى {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الشعراء 16، ففيها إخبار عن (نا) الفاعلين بكلمة رَسُول وهي مفرد، أو كما قد يعبّر المؤلف: مجازها وقوع معنى الجميع على الواحد، وكأنّي بالمؤلف يجعل (نا) للجمع دون المثنّى، وهذا خلاف الاستعمال الشائع والمشهور لها أنّها مشتركة بينهما، كما أنّه يمكن أن يقال: ربّما روعي فيها أنّ المثنى أوّلُ الجمع؛ لذا لم يُخصّص للمتكلِّمَيْنِ في ضمائر الرفع المتصلة ضميرٌ، أمّا المفردُ فله التاء المضمومة، بخلاف المخاطبَيْنِ: حضرتُما، وتحضران، وبخلاف الغائبينِ حضرا ويحضران، ولا نصيب أيضا للمثنى المتكلم في الضمائر المتصلة المشتركة بين النصب والجر مع أن المفرد المتكلم له الياء والمثنى المخاطب والغايب له كما وهما مثل ضربتكما وضربتهما ومررت بكما وبهما؛ اكتفاء بنا الفاعلين ضميرا مشتركا بين حالات الرفع والنصب والجر، وليس للمثنى المتكلم أيضا ضمير في ضمائر الرفع والنصب المنفصلة، اكتفاء بنحن وإيانا، في حين وضع للمثنى المخاطب والغائب أنتما وإياكما وهما وإياهما.
وكنتُ قد ظننت أنّ المؤلف قصد قولَه تعالى {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} فهي مناسبة أكثر لرسم النسخ عدا ألف التثنية، وهي من قوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} طه 47، ولكني رجحت آية الشعراء لأنّ مجاز أية طه من وجهة نظر أبي عبيد سيكون وقوع (نا) على المثنّى. وهذا شأنٌ آخر، أفرده بقوله: "ومن مجاز ما جاء لفظه الجميع الذي له واحد منه ووقع معنى هذا الجميع على الاثنين"
وملحظ آخر على هذا النصّ، وهو أنّ المؤلف رحمه الله جعل نا الفاعلين للجمع وحده مع أنها في الاستعمال للجمع والمثنى فهي من المشترك اللفظيّ، كما بينته قبل قليل.
وملحظ ثالث في الآية وهو: أنّ {رسول} المفرد وقع موقع (رسولا) المثنّى، وهذا أولى بالاهتمام به، يستحق أنْ يُسْلك في مجازات أبي عبيدة، ولأنّ (نا) الفاعلين لا يُستغرب أن تقع على المثنّى، أو على المفرد المعظِّم نفسه.