القاضي حسن فؤاد
عضو محكمة التمييز الاتحادية
أقرت محكمة النقض المصرية مبدأ معاقبة القاضي انضباطياً إذا ظهر بوسائل الاعلام من دون تصريح بذلك من مجلس القضاء الاعلى مع تأكيد المحكمة على حق المجلس بمنع القاضي أو عضو النيابة العامة من مباشرة أي عمل لايتفق واستقلال القضاء وكرامته ويتعارض مع واجبات الوظيفة القضائية ووجوب تنظيم مشاركة القضاة وحضورهم بوسائل الاعلام المختلفة . وجاء في قرار المحكمة المنشور على الرابط https://kadyonline.com/?p=67915 أن السبب في معاقبة القاضي هو ظهوره بوسائل الاعلام أثناء فترة حكم جماعة الأخوان مهاجماً إياهم وحركة " قضاة من أجل مصر " عن طريق التصريحات الاعلامية والصحفية وبيانات عبر مواقع التواصل الاجتماعي فيما يتعلق بالوقائع التي تعود إلى العام ٢٠١٣ في معرض رده ودفاعه على الهجوم والتطاول الذي وقع من تلك الجماعة ضد القضاة في ذلك الوقت وأضافت محكمة النقض في تبريرها معاقبة القاضي أنه ليس من مهامه الدفاع أو الهجوم أو التطاول على مَنْ يتطاول ويتجاوز على القضاة . ويأتي هذا المبدأ منسجماً مع النصوص الدستورية والقانونية العراقية الخاصة بمنع القاضي من مزاولة أو مباشرة أي عمل أو نشاط لايتفق ووظيفة القضاء ومكانته مادفعني للاسترشاد به كمدخل للكتابة في هذا الموضوع على وفق ما تنص عليه المادة ١ / ٣ من القانون المدني العراقي .
فالدستور العراقي لسنة ٢٠٠٥ ينص بالمادة ٩٨ منه على أنه " يحظر على القاضي وعضو الإدعاء العام ما يأتي :- أولاً : الجمع بين الوظيفة القضائية و الوظيفتين التشريعية والتنفيذية أو أي عمل آخر . ثانياً : الانتماء إلى أي حزب أو منظمة سياسية أو العمل في أي نشاط سياسي " وأوجبت المادة ٧ / أولاً من قانون التنظيم القضائي رقم ١٦٠ لسنة ١٩٧٩ المعدل على القاضي أن يحافظ على كرامة القضاء والابتعاد عن كل سلوك يبعث الريبة في استقامته وتجنب القيام بأي عمل لا يأتلف ومكانة القضاء ومنعت الفقرة ثالثاً من المادة المذكورة القاضي من مزاولة التجارة أو أي عمل لا يتفق ووظيفة القضاء .
كما ان قانون السلطة القضائية رقم ٢٦ لسنة ١٩٦٣ " الملغي " كان يُوجب على القاضي عدم الانتماء إلى الأحزاب السياسية أو الاشتغال بالسياسة وأن يحافظ على استقلال القضاء وعلى حياده التام وعدم فسح المجال للتأثير على سير العدالة وتجنب الإتيان بأي عمل لا يأتلف مع مكانة القضاة أو سلوكه مسلكاً يلقى الريب في استقامته وأوجب على القاضي أيضاً عدم مزاولة التجارة أو أي عمل آخر لا يتفق ووظيفة القضاء .
ومن مراجعة النصوص المتقدمة نجد أن الغاية من تشريعها وإلزام القاضي بمراعاتها عند مباشرة عمله هي ضمان استقلال القضاء والمحافظة على كرامة القضاة وإبعادهم عما يقلل من هيبتهم لدى الناس وحماية مصلحة العمل القضائي والتي تقتضي أن يتفرغ القاضي إلى مهام عمله بالكامل ولهذا منعه المشرع من مزاولة الأعمال التي لا تتفق واستقلال القضاء وكرامته وتؤثر في حياده ونزاهته واستقامته وإذا ما زاول القاضي أي عمل لا يتفق ووظيفة القضاء يستطيع مجلس القضاء الاعلى في هذه الحالة منعه من ذلك فضلاً عما يشكله من مخالفة لواجباته تستلزم مساءلته انضباطياً .
وفي السياق نفسه منع المشرع القاضي من الاشتغال بالسياسة وأبداء الاراء السياسية مراعياً في ذلك أن النشاط السياسي على العموم لا ينسجم وطبيعة عمل القاضي ويتعارض مع استقلاله وحياده وأن اشتغال القاضي بالسياسة قد يؤدي به إلى الميل لمصالح مَن يتوافق معه سياسياً أو الجور على حقوق مَن يختلف معه في القضايا السياسية أو يؤدي على الأقل إلى شبهة وجود مثل هذا الميل أو الجور.
ويُلاحظ أن المشرع لم يحدد ماهية الاعمال التي لا تأتلف ومكانة القضاء وتلك التي لا تتفق ووظيفة القاضي وعمله وترك هذا الأمر إلى مجلس القضاء الاعلى لتحديده على وفق سلطته التقديرية باعتباره المسؤول عن ادارة شؤون القضاء ويتولى الاشراف على اعمال القضاة وبناء عليه يستطيع المجلس أن يمنع القضاة من المباشرة بأي عمل يرى فيه أنه لا يأتلف ولا يتفق مع مكانة ووظيفة القضاء ومن هذه الاعمال الظهور بوسائل الاعلام وإذا لم يستجب القاضي الممنوع من ذلك العمل عندئذٍ يتوجب إحالته إلى لجنة شؤون القضاة لإجراء محاكمته انضباطياً على وفق المواد ٥٨ و ٦٠ و ٦١ من قانون التنظيم القضائي ويكون القرار الصادر نتيجة المحاكمة قابلاً للطعن فيه لدى الهيئة الموسعة في محكمة التمييز الاتحادية على وفق المادة ٦٢ من القانون المذكور والتي يكون لها القول الفصل في هذا الموضوع .
وظهور القضاة وتصريحاتهم بوسائل الاعلام المرئي او المسموع او المقروء او عبر مواقع التواصل الاجتماعي وابداء الاراء والمناقشات في قضايا سياسية او تحليل وانتقاد بعض اجراءات وقرارات الحكومة ومجلس النواب بشأن ادارة الدولة ممالاشك فيه يشكل تعارضاً مع استقلالهم وحيادهم ومايجب عليهم الالتزام به من عدم التحيز إلى مصالح أي شخص او جهة والابتعاد عن الميول السياسية والحزبية والفئوية والمذهبية وظهور القاضي في الأعلام للتحدث في مثل هذه القضايا لابد أن يوقعه في المحظور وهو أمر مخالف لواجباته ويستوجب مساءلته .
كما ان ظهور القاضي في الاعلام عمل لا يتفق مع مهام الوظيفة القضائية ذلك ان مهمة القاضي الاساسية الفصل في الخصومات ومباشرة الاختصاصات الاخرى المحددة بالقانون وليس من تلك المهام والاختصاصات التحليل السياسي او الاجتماعي او تقديم الاراء والاستشارات للجهات الحكومية والسياسية عن طريق وسائل الاعلام وما ينطوي عليه الظهور الاعلامي للقاضي في مثل هذه الحالات من مزاولة للنشاط السياسي وهو ممنوع منه بموجب الدستور والقانون فضلاً عما قد تتضمنه الاحاديث والحوارات بوسائل الاعلام من قيام القاضي بالافتاء وتقديم الاراء المسبقة وبيان الأحكام القانونية في قضايا معينة تكون مطروحة للمناقشة خلال الحديث او الحوار وهو أمر محظور عليه قانوناً .
والواقع ان مشاركة القضاة وحضورهم بوسائل الاعلام يفتح المجال واسعاً للتدخل بشؤون القضاء ويبرر أنتقاد أداء المؤسسة القضائية والعمل القضائي على وجه العموم والذي يتعين أن تتوفر له كل ضمانات الاستقلال وابعاده عن ضجيج وصخب الاعلام وعن تجاذبات وتقاطعات رجال السياسة والاعلام بقصد تأكيد الثقة به وتعزيز الاطمئنان بأحكام القضاء في نفوس المواطنين وهو ما يستوجب بحق كما أشار قرار محكمة النقض المصرية ضرورة تنظيم الظهور الاعلامي للقضاة حفاظاً على جلال منصبهم ونزاهتهم واستقلالهم كأفراد ونظام ، وصيانة لكرامة القضاء وتعظيماً لمكانته في المجتمع وترفعاً من القضاة عن السعي للبريق الاعلامي بقصد التأثير في الرأي العام او الترويج لأنفسهم من أجل الحصول على منصب سياسي او حكومي او قضائي أو الاعتراض على قرارات وإجراءات مجلس القضاء الاعلى بشأن ادارة شؤون القضاء والاشراف على عمل القضاة خلافاً لما هو منصوص عليه في القانون لغرض كَسْب تعاطف الجمهور معهم ، مما يشكل مسلكاً معيباً يتنافى مع مايجب أن يتحلى به القاضي من الاستقامة في تصرفاته والابتعاد عن كل مايؤدي إلى المساس او الاخلال بالثقة فيه وبادارة المؤسسة القضائية وبالعمل القضائي عموماً ناهيك عما يكون للظهور الاعلامي من تأثير ومردود سلبي على سمعة ومكانة القضاء . وبديهي أن مجلس القضاء الاعلى هو صاحب الاختصاص بتنظيم الظهور الاعلامي للقضاة وتحديد المسائل والقضايا الضرورية التي تتطلب مناقشتها وابداء الاراء فيها اعلامياً ووضع آلية محددة لذلك سواء عبر وسائل الاعلام الحكومية او الخاصة او عبر القنوات الاعلامية للمجلس . نخلص من كل ماتقدم انه يتوجب على القضاة واعضاء الادعاء العام الابتعاد عن ابداء الاراء والاحاديث والمناقشات عبر وسائل الاعلام المختلفة في قضايا ومسائل تمس استقلالهم وتخل بالثقة في أحكامهم وتُعرّض منصبهم القضائي للانتقاد والتشكيك بنزاهتهم واستقامتهم وتحط من قدرهم ومكانتهم في نفوس الناس إلا اذا كانت هناك ضرورة تتطلب ظهور القاضي اعلامياً وبعد الحصول على اذن مسبق بذلك من مجلس القضاء الاعلى واعتبار من يخالف هذا الامر من القضاة مستوجب للتحقيق والمساءلة الانضباطية .