ما هي الروح وما هي الريح ؟
وأين يذهب نور السراج إذا انطفئ ؟
وكيف سُيحشر الناس يوم القيامة ؟

*
سُئِلَ الْإِمَامُ الصَّادِقُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) :
أَخْبِرْنِي عَنِ السِّرَاجِ إِذَا انْطَفَأَ أَيْنَ يَذْهَبُ نُورُهُ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : يَذْهَبُ فَلَا يَعُودُ .
فَقِيلَ لَهُ : فَمَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مِثْلَ ذَلِكَ ؟ إِذَا مَاتَ وَفَارَقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ أَبَداً كَمَا لَا يَرْجِعُ ضَوْءُ السِّرَاجِ إِلَيْهِ أَبَداً إِذَا انْطَفَأَ !
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : لَمْ تُصِبِ الْقِيَاسَ ! إِنَّ النَّارَ فِي الْأَجْسَامِ كَامِنَةٌ وَالْأَجْسَامَ قَائِمَةٌ بِأَعْيَانِهَا كَالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ ، فَإِذَا ضُرِبَ‏ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ سَطَعَتْ مِنْ بَيْنِهِمَا نَارٌ يُقْتَبَسُ مِنْهُمَا سِرَاجٌ لَهُ الضَّوْءُ ، فَالنَّارُ ثَابِتَةٌ فِي أَجْسَامِهَا وَالضَّوْءُ ذَاهِبٌ وَالرُّوحُ جِسْمٌ رَقِيقٌ قَدْ أُلْبِسَ قَالَباً كَثِيفاً وَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ السِّرَاجِ الَّذِي ذَكَرْتَ ، إِنَّ الَّذِي خَلَقَ فِي الرَّحِمِ جَنِيناً مِنْ مَاءٍ صَافٍ وَرَكَّبَ فِيهِ ضُرُوباً مُخْتَلِفَةً مِنْ عُرُوقٍ وَعَصَبٍ وَأَسْنَانٍ وَشَعْرٍ وَعِظَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ يُحْيِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيُعِيدُهُ بَعْدَ فَنَائِهِ .
فَقِيلَ لَهُ : فَأَيْنَ الرُّوحُ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : فِي بَطْنِ الْأَرْضِ حَيْثُ مَصْرَعُ الْبَدَنِ إِلَى وَقْتِ الْبَعْثِ .
فَقِيلَ لَهُ : فَمَنْ صُلِبَ أَيْنَ رُوحُهُ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : فِي كَفِّ الْمَلَكِ الَّذِي قَبَضَهَا حَتَّى يُودِعَهَا الْأَرْضَ .
فَقِيلَ لَهُ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الرُّوحِ أَغَيْرُ الدَّمِ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : نَعَمْ ! الرُّوحُ عَلَى مَا وَصَفْتُ لَكَ مَادَّتُهُ مِنَ الدَّمِ وَمِنَ الدَّمِ رُطُوبَةُ الْجِسْمِ وَصَفَاءُ اللَّوْنِ وَحُسْنُ الصَّوْتِ وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ ، فَإِذَا جَمَدَ الدَّمُ فَارَقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ .
فَقِيلَ لَهُ : فَهَلْ يُوصَفُ بِخِفَّةٍ وَثِقْلٍ وَوَزْنٍ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : الرُّوحُ بِمَنْزِلَةِ الرِّيحِ فِي الزِّقِ‏ ، إِذَا نُفِخَتْ فِيهِ امْتَلَأَ الزِّقُّ مِنْهَا ، فَلَا يَزِيدُ فِي وَزْنِ الزِّقِّ وُلُوجُهَا فِيهِ وَلَا يَنْقُصُهَا خُرُوجُهَا مِنْهُ ، كَذَلِكَ الرُّوحُ لَيْسَ لَهَا ثِقْلٌ وَلَا وَزْنٌ .
فَقِيلَ لَهُ : فَأَخْبِرْنِي مَا جَوْهَرُ الرِّيحِ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : الرِّيحُ هَوَاءٌ إِذَا تَحَرَّكَ سُمِّيَ رِيحاً ، فَإِذَا سَكَنَ سُمِّيَ هَوَاءً وَبِهِ قِوَامُ الدُّنْيَا ، وَلَوْ كُفِتَ الرِّيحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَفَسَدَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَنَتُنَ وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ بِمَنْزِلَةِ الْمِرْوَحَةِ تَذُبُّ وَتَدْفَعُ الْفَسَادَ عَنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَتُطَيِّبُهُ ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْبَدَنِ نَتُنَ الْبَدَنُ وَتَغَيَّرَ تَبَارَكَ‏ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ‏ .
فَقِيلَ لَهُ : أَفَيَتَلَاشَى الرُّوحُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ قَالَبِهِ أَمْ هُوَ بَاقٍ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى وَقْتِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبْطُلُ الْأَشْيَاءُ وَتَفْنَى فَلَا حِسَّ وَلَا مَحْسُوسَ ثُمَّ أُعِيدَتِ الْأَشْيَاءُ كَمَا بَدَأَهَا مُدَبِّرُهَا وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ تَسْبُتُ‏ فِيهَا الْخَلْقُ ، وَذَلِكَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ .
فَقِيلَ لَهُ : وَأَنَّى لَهُ بِالْبَعْثِ وَالْبَدَنُ قَدْ بَلِيَ وَالْأَعْضَاءُ قَدْ تَفَرَّقَتْ ؟ فَعُضْوٌ بِبَلْدَةٍ يَأْكُلُهَا سِبَاعُهَا وَعُضْوٌ بِأُخْرَى تَمْزِقُهُ هَوَامُّهَا وَعُضْوٌ قَدْ صَارَ تُرَاباً بُنِيَ بِهِ مَعَ الطِّينِ حَائِطٌ !
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : إِنَّ الَّذِي أَنْشَأَهُ مِنْ غَيْرِ شَيْ‏ءٍ وَصَوَّرَهُ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَانَ سَبَقَ إِلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يُعِيدَهُ كَمَا بَدَأَهُ .
فَقِيلَ لَهُ : أَوْضِحْ لِي ذَلِكَ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : إِنَّ الرُّوحَ مُقِيمَةٌ فِي مَكَانِهَا ، رُوحَ الْمُحْسِنِ فِي ضِيَاءٍ وَفُسْحَةٍ ، وَرُوحَ الْمُسِي‏ءِ فِي ضِيقٍ وَظُلْمَةٍ ، وَالْبَدَنُ يَصِيرُ تُرَاباً كَمَا مِنْهُ خُلِقَ ، وَمَا تَقْذِفُ بِهِ السِّبَاعُ وَالْهَوَامُّ مِنْ أَجْوَافِهَا مِمَّا أَكَلَتْهُ وَمَزَّقَتْهُ كُلُّ ذَلِكَ فِي التُّرَابِ مَحْفُوظٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ ، وَيَعْلَمُ عَدَدَ الْأَشْيَاءِ وَوَزْنَهَا وَإِنَّ تُرَابَ الرُّوحَانِيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ فِي التُّرَابِ ، فَإِذَا كَانَ حِينَ الْبَعْثِ مَطَرَتِ الْأَرْضُ مَطَرَ النُّشُورِ فَتَرْبُو الْأَرْضُ ثُمَّ تَمْخَضُ مَخْضَ‏ السَّقَّاءِ ، فَيَصِيرُ تُرَابُ الْبِشْرِ كَمَصِيرِ الذَّهَبِ مِنَ التُّرَابِ إِذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ ، وَالزُّبْدِ مِنَ اللَّبَنِ إِذَا مُخِضَ .
فَيَجْتَمِعُ تُرَابُ كُلِّ قَالَبٍ إِلَى قَالَبِه فَيَنْقُلُ‏ بِإِذْنِ الْقَادِرِ إِلَى حَيْثُ الرُّوحُ ، فَتَعُودُ الصُّوَرُ بِإِذْنِ الْمُصَوِّرِ كَهَيْئَتِهَا وَتَلِجُ الرُّوحُ فِيهَا ، فَإِذَا قَدِ اسْتَوَى لَا يُنْكِرُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً .
فَقِيلَ لَهُ : أَخْبِرْنِي عَنِ النَّاسِ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : بَلْ يُحْشَرُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ .
فَقِيلَ لَهُ : أَنَّى لَهُمْ بِالْأَكْفَانِ وَقَدْ بُلِيَتْ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : إِنَّ الَّذِي أَحْيَا أَبْدَانَهُمْ جَدَّدَ أَكْفَانَهُمْ .
فَقِيلَ لَهُ : فَمَنْ مَاتَ بِلَا كَفَنٍ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : يَسْتُرُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ بِمَا شَاءَ مِنْ عِنْدِهِ .
فَقِيلَ لَهُ : أَفَيُعْرَضُونَ صُفُوفاً ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : نَعَمْ هُمْ يَوْمَئِذٍ عِشْرُونَ وَمِائَةُ أَلْفِ صَفٍّ فِي عَرْضِ الْأَرْضِ .
فَقِيلَ لَهُ : أَوَلَيْسَ تُوزَنُ الْأَعْمَالُ‏ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : لَا ! إِنَّ الْأَعْمَالَ‏ لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةُ مَا عَمِلُوا ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى وَزْنِ الشَّيْ‏ءِ مَنْ جَهِلَ عَدَدَ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَعْرِفُ ثِقْلَهَا وَخِفَّتَهَا وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْ‏ءٌ .

*
المصدر : (البحار : ج10، ص184، عن كتاب الاحتجاج.)