من أي شيءٍ خلق الله تعالى الأشياء ؟
ولماذا خلق الله تعالى الخلق ؟
*
سُئِلَ الْإِمَامُ الصَّادِقُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) :
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ الْأَشْيَاءَ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : مِنْ لَا شَيْءٍ .
فَقِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ يَجِيءُ مِنْ لَا شَيْءٍ شَيْءٌ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : إِنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ .
فَإِنْ كَانَتْ خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ كَانَ مَعَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ قَدِيمٌ وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ حَدِيثاً وَلَا يَفْنَى وَلَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَوْهَراً وَاحِداً وَلَوْناً وَاحِداً . فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ هَذِهِ الْأَلْوَانُ الْمُخْتَلِفَةُ وَالْجَوَاهِرُ الْكَثِيرَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ ضُرُوبٍ شَتَّى ؟ وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ الْمَوْتُ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي أُنْشِئَتْ مِنْهُ الْأَشْيَاءُ حَيّاً ؟ أَوْ مِنْ أَيْنَ جَاءَتِ الْحَيَاةُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَيِّتاً ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيٍّ وَمَيِّتٍ قَدِيمَيْنِ لَمْ يَزَالا ، لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يَجِيءُ مِنْهُ مَيِّتٌ وَهُوَ لَمْ يَزَلْ حَيّاً وَلَا يَجُوزُ أَيْضاً أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدِيماً لَمْ يَزَلْ بِمَا هُوَ بِهِ مِنَ الْمَوْتِ ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا بَقَاءَ .
فَقِيلَ لَهُ : فَمِنْ أَيْنَ قَالُوا إِنَّ الْأَشْيَاءَ أَزَلِيَّةٌ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : هَذِهِ مَقَالَةُ قَوْمٍ جَحَدُوا مُدَبِّرَ الْأَشْيَاءِ ، فَكَذَّبُوا الرُّسُلَ وَمَقَالَتَهُمْ وَالْأَنْبِيَاءَ وَمَا أَنْبَئُوا عَنْهُ وَسَمَّوْا كُتُبَهُمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ وَوَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ دِيناً بِآرَائِهِمْ وَاسْتِحْسَانِهِمْ . إِنَّ الْأَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِا مِنْ دَوَرَانِ الْفَلَكِ بِمَا فِيهِ وَهِيَ سَبْعَةُ أَفْلَاكٍ وَتَحَرَّكُ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا وَانْقِلَابُ الْأَزْمِنَةِ وَاخْتِلَافُ الْوَقْتِ وَالْحَوَادِثُ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ وَمَوْتٍ وَبَلًى وَاضْطِرَارِ النَّفْسِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ لَهَا صَانِعاً وَمُدَبِّراً . أَمَا تَرَى الْحُلْوَ يَصِيرُ حَامِضاً وَالْعَذْبَ مُرّاً وَالْجَدِيدَ بَالِياً وَكُلٌّ إِلَى تَغَيُّرٍ وَفَنَاءٍ ؟
فَقِيلَ لَهُ : فَلَمْ يَزَلْ صَانِعُ الْعَالَمِ عَالِماً بِالْأَحْدَاثِ الَّتِي أَحْدَثَهَا قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَهَا ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُ فَخَلَقَ مَا عَلِمَ .
فَقِيلَ لَهُ : أَمُخْتَلِفٌ هُوَ أَمْ مُؤْتَلِفٌ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : لَا يَلِيقُ بِهِ الِاخْتِلَافُ وَلَا الِائْتِلَافُ ، إِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْمُتَجَزِّئُ وَيَأْتَلِفُ الْمُتَبَعِّضُ ، فَلَا يُقَالُ لَهُ مُؤْتَلِفٌ وَلَا مُخْتَلِفٌ .
فَقِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ فَلَا وَاحِدَ كَوَاحِدٍ ، لِأَنَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْوَاحِدِ مُتَجَزِّئٌ وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاحِدٌ لَا يَتَجَزِّئ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعَدُّ .
فَقِيلَ لَهُ : فَلِأَيِّ عِلَّةٍ خَلَقَ الْخَلْقَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِمْ وَلَا مُضْطَرٍّ إِلَى خَلْقِهِمْ وَلَا يَلِيقُ بِهِ التَّعَبُّثُ ببِنَا ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : خَلَقَهُمْ لِإِظْهَارِ حِكْمَتِهِ وَإِنْفَاذِ عِلْمِهِ وَإِمْضَاءِ تَدْبِيرِهِ .
فَقِيلَ لَهُ : وَكَيْفَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى هَذِهِ الدَّارِ فَيَجْعَلَهَا دَارَ ثَوَابِهِ وَمُحْتَبَسَ عِقَابِهِ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ دَارُ ابْتِلَاءٍ وَمَتْجَرُ الثَّوَابِ وَمُكْتَسَبُ الرَّحْمَةِ ، مُلِئَتْ آفَاتٍ وَطُبِقَتْ شَهَوَاتٍ لِيَخْتَبِرَ فِيهَا عَبِيدَهُ بِالطَّاعَةِ ، فَلَا يَكُونُ دَارُ عَمَلٍ دَارَ جَزَاءٍ .
فَقِيلَ لَهُ : أَفَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ لِنَفْسِهِ عَدُوّاً وَقَدْ كَانَ وَلَا عَدُوَّ لَهُ ؟ فَخَلَقَ كَمَا زَعَمْتَ إِبْلِيسَ فَسَلَّطَهُ عَلَى عَبِيدِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى خِلَافِ طَاعَتِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِمَعْصِيَتِهِ وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ كَمَا زَعَمْتَ مَا يَصِلُ بِلُطْفِ الْحِيلَةِ إِلَى قُلُوبِهِمْ فَيُوَسْوِسُ إِلَيْهِمْ فَيُشَكِّكُهُمْ فِي رَبِّهِمْ وَيُلَبِّسُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ فَيُزِيلُهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ ؟ حَتَّى أَنْكَرَ قَوْمٌ لَمَّا وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ رُبُوبِيَّتَهُ وَعَبَدُوا سِوَاهُ ، فَلِمَ سَلَّطَ عَدُوَّهُ عَلَى عَبِيدِهِ وَجَعَلَ لَهُ السَّبِيلَ إِلَى إِغْوَائِهِمْ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : إِنَّ هَذَا الْعَدُوَّ الَّذِي ذَكَرْتَ لَا يَضُرُّهُ عَدَاوَتُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ وَلَايَتُهُ ، عَدَاوَتُهُ لَا تُنْقِصُ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئاً وَوَلَايَتُهُ لَا تَزِيدُ فِيهِ شَيْئاً ، وَإِنَّمَا يُتَّقَى الْعَدُوُّ إِذَا كَانَ فِي قُوَّةٍ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ ، إِنْ هَمَّ بِمُلْكٍ أَخَذَهُ أَوْ بِسُلْطَانٍ قَهَرَهُ ، فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَعَبْدٌ خَلَقَهُ لِيَعْبُدَهُ وَيُوَحِّدَهُ وَقَدْ عَلِمَ حِينَ خَلْقِهِ مَا هُوَ وَإِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَزَلْ يَعْبُدُهُ مَعَ مَلَائِكَتِهِ حَتَّى امْتَحَنَهُ بِسُجُودِ آدَمَ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حَسَداً وَشَقَاوَةً غَلَبَتْ عَلَيْهِ ، فَلَعَنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ عَنْ صُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَأَنْزَلَهُ إِلَى الْأَرْضِ مَلْعُوناً مَدْحُوراً فَصَارَ عَدُوَّ آدَمَ وَوُلْدِهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ ، وَمَا لَهُ مِنَ السَّلْطَنَةِ عَلَى وُلْدِهِ إِلَّا الْوَسْوَسَةَ وَالدُّعَاءَ إِلَى غَيْرِ السَّبِيلِ ، وَقَدْ أَقَرَّ مَعَ مَعْصِيَتِهِ لِرَبِّهِ بِرُبُوبِيَّتِهِ .
فَقِيلَ لَهُ : أَفَيَصْلُحُ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : لَا !
فَقِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لآِدَمَ ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : إِنَّ مَنْ سَجَدَ بِأَمْرِ اللَّهِ سَجَدَ لِلَّهِ ،
فَكَانَ سُجُودُهُ لِلَّهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ .
*
المصدر : (البحار : ج10، ص166، عن كتاب الاحتجاج.)