مرثية أور وبلاد سومر وأكد
تعد هذه المرثية أكثر شمولاً من المرثية الأولى، لكونها تشمل رثاء مدينة أور بشكل خاص، وبلاد سومر بشكل عام، وكما تعد على قدر كبير من الأهمية؛ لكونها تلقي الضوء على ما وصل اليه الأدب في حضارة بلاد الرافدين ، فضلاً عن أهميتها في إلقاء الضوء على بعض الجوانب الخاصة بالمعتقدات الدينية، والاجتماعية، والسياسية السائدة في ذلك العص.
تنتظم هذه المرثية في 518 بيتاً تقريباً، مقسمة على خمسة مقاطع KI.RU.GU وقد دُونت على أكثر من ثلاثين لوحاً غير كاملة ، نُشِرَ عدد غير قليل منها بين الأعوام 1914 و 1944 ، وكان الباحثون سابقاً يقسمونها خطأ على جزأين، الأول وموضوعه رثاء الملك أبي-سين واقتياده أسيراً إلى بلاد عيلام، والثاني وصف بلاد سومر وأكد. ولكن الاكتشافات الحديثة للرقم الطينية، والتي أكملت أجزاء المرثية أكدت بأنها تؤلف قطعة أدبية واحدة. ومعروف لدينا السبب الذي كُتِبَ من أجله النص، ألا وهو سقوط سلالة أور
الثالثة 2004 ق.م، وتفاصيل أخرى عما حل بمدن سومر بصورة عامة على أيدي العيلاميين والأموريين، إلا أنه من الصعب تحديد تأريخ تدوينه بشكل دقيق ومؤكد، ولا يوجد أدنى شك في أن النص كان يخدم وظيفة طقسية أثناء إعادة بناء المدينة، ويرجح بعض الباحثين أنه قد دُوّنَ في النصف الأول من الألف الثاني ق.م
تركيب المرثية:
تختلف أطوال المقاطع بعضها عن البعض الآخر، فالمقطع الأول يتألف من 111 بيتاً شعرياً، يعد من أعقد أجزاء المقطوعة، ويبدأ فيه الشاعر بندب المصير المؤلم الذي قدرته الآلهة الأربعة آن، انليل، انكي، وننخرساك لبلاد سومر وأكد وشعبيهما، فعطلوا النواميس الإلهية ME التي تدار بموجبها شؤون العالم، والبشر، وأعقب ذلك تدمير المدن، والبيوت، ومرابط الحيوانات وحظائر الأغنام، وجداول الأنهار، والحقول، والمراعي، ونقل نظام الملوكية إلى أرض غريبة، وتنكر الإله (ننا) لمدينة أور ومعابدها، فحدث الانهيار الكامل لهذه المدينة المشهورة بسلطتها ونسبها، كما ويشير المقطع أيضاً إلى إدخال الغزاة شعائر غريبة إليها فضلاً عن وقوع ملكها ابي – سين أسيراً بأيديهم، ونقله إلى بلاد عيلام التي لم يعد منها ، كما وقام الكوتيون بغزو البلاد غزواً أشبه بالطوفان الذي أباد كل ما يعترض طريقه؛ مما ضاعف دمار البلاد وخرابها للبلاد ، ونقتبس من مطلع النص ما يأتي:
1. لكي يُغير الأجل المحدد، وتُلغى الخطط المقدرة.
2. تجمعت العواصف لتضرب كالطوفان.
3. لكي تغير النواميس الإلهية لسومر.
4. لتُدمر المدينة، ويُدمر المعبد.
17. ولكي يغير موضع الملوكية.
18. وتدنس الحقوق والنواميس.
19. ليسلط ويل العواصف على البلاد.
20. وتُلغى النواميس الإلهية بأمر أنو وانليل.
32. لم يعد الناس يسكنوا في ديارهم، وأنهم أسلموا للسكن في أرض الأعداء.
35. وأخِذَ أبي-سين مكبلاً إلى عيلام.
37. كالطائر هجر عشه، ولم يعد إلى مدينته.
40. تحولت المدينة وما حولها إلى خراب.
41. وذُبح العديد من ذوي الرؤوس السود.
43. وشدو الراعي في قطيعه، لم يعد يتردد صداه في الحقول.
47. وهلكت عُشر حيوانات السهب، وانتهى كل شيء حي.
52. مدينة الثور البري المهاجم اغترت بقوتها.
55. الإله أنو، انليل، انكي، ننماخ، قرروا قدرها.
56. قدرها الذي لا يمكن تغييره، من يستطيع تحويله.
58. الإله أنو أرعب سكان سومر ، الناس خائفون.
59. خلعت الإلهة (ننتو) بوابة مخزن البلاد.
60. الإله انكي سيد مياه دجلة والفرات.
61. وأبعد اوتو (الإله شمش) كلمة الحق والعدل عن أفواه الناس.
62. وسلمت الإلهة أنانا النصر في المعركة إلى البلاد المتمردة.
63. الإله ننكرسو أهدر (دم) سومر كالحليب المسكوب للكلاب.
64. الثورة حلت بالبلاد بشكل لم يعرفه أحد.
65. إنه شيء لم تَرَ العين مثله، شيء لا يمكن وصفه.
66. اضطربت البلاد من شدة خوفها.
67. وتراجع إلهها، واختفى راعيها.
68. العاصفة أخذتهم، ولم تدع أحداً منهم يعود.
73. الإله انليل أنزل الكوتيين من الجبال.
74. فكان زحفهم كطوفان انليل، لا يمكن صده.
77. إنه ليوم أسود.
78. في ذلك اليوم سُحقت أفواه، وهُشّمت رؤوس.
79. العاصفة هبطت من السماء، والمدينة كأنها خُرّبت بالمعاول.
80. في ذلك اليوم أرعدت السماء، واهتزت الأرض، واستمرت العاصفة بلا هوادة.
81. اسودت السماء بظلمة حالكة، وأصدت الجبال.
83. واختفى القمر وسط السماء، وعاش الناس في رعب.
86. الغرباء في المدينة يتصيدون الموت.
87. قُطِعَت الأشجار الكبيرة، ودمرت الغابات.
89. جثث القتلى تطفو على نهر الفرات، واللصوص يجوبون الطرقات.
90. الزوج هجر زوجته، ولم يعد يقول آه يا زوجتي.
91. الأم هجرت ولدها ، ولم تعد تقول له آه يا ولدي.
92. وفي تلك الأيام دنست ملوكية البلاد.
93. الإله ننا عامل شعبه الكبير كالأغنام.
94. ملكها جالسٌ في قصره لوحده متسمراً.
95. ابي – سين يجلس مكتئباً خائفاً في قصره.
96. إنه يَذْرِفُ الدموع بمرارة في قصره المضيء.
97. الطوفان الجارف غمر كل شيءٍ.
98. كالعاصفة الهوجاء فوق الأرض، لا أحد يستطيع الهرب منها.
99. لكي تُدمر المدينة، ويُدمر المعبد.
100. تلك المقاطعات انقلبت على رؤوس الرجال الصادقين.
101. وفاضت المقاطعات بدماء الرجال الصادقين.
وفي المقطع الثاني الذي انتظم في (170) بيتاً يتناول الشاعر ذكر تفاصيل الدمار الذي حل بمدن بلاد سومر ، وعددها (40) مدينة من الشمال إلى الجنوب، ابتداءً بـ(كيش) وانتهاءً بـ(أور وأريدو) في أقصى الجنوب من بلاد سومر، مع ملاحظة الدمار نفسه في كل واحدة، وما حل بمعابدها من خراب وتدنيس الذي أدى إلى أن تهجرها إلهتها وهي تنتحب عليها. وكذلك نجد وصفاً لما تعرض اليه كهنتها من قتل وأسرٍ على أيدي الأعداء( ) وفي أدناه نقتبس بعضاً من المقاطع المختارة مما قيل عن ذلك الوضع المأساوي:
117. الأم بابا( ) تنوح بمرارة (في معبدها).
118. واحسرتاه (هي) تبكي بمرارة (على) المدينة المدمرة، المعبد المدمر.
137. أم البلاد، نن-سينا بكت دموعاً مرة.
163. في ذلك اليوم كانت كلمة انليل عاصفة هجومية، من يستطيع فهمها.
164. كلمة انليل دمار على اليمين، (ودمار) على الشمال.
165. هذا ما فعله انليل من أجل تقرير مصير الجنس البشري.
166. جلب انليل العيلاميين الأعداء من الأراضي المرتفعة.
175. ويل لي، انليل سلم (المدينة إلى) العاصفة.
193. أقيمَت مناحة على منصة لتصل السماء.
214. في ذلك اليوم أجبرت العاصفة الناس على العيش في الظلمة.
221. أريدو العائمة على مياه عظيمة، حُرِمَت من مياه الشرب.
239. انكي مدينتك لعنت، أعطيت إلى أرض العدو.
251. في مدينة أور لا أحد يجلب طعاماً، ولا أحد يجلب ماء.
252. ولكن من أراد الحصول على الطعام، أخِذَ بعيداً ولم يعد.
253. إلى الجنوب نحو السهوب العيلامية، هناك يقتلون.
259. مدينة أور كغزال كبير قد اصطيد، حَنَتْ رأسها على الأرض.
260. هذا ما فعله الإله انليل، الذي يقرر المصائر.
277. واحسرتاه، بمرارة تبكي (على) المدينة المدمرة (على) المعبد المدمر
أما المقطع الثالث فيعد محور المرثية الذي انتظم من (74) بيتاً ، يفصل الشاعر فيه الدمار الذي حل بمدينة أور خاصةً فقدان كل أشكال الوفرة، فهو يندب معاناة شعبها ملكاً وكهنة وشعباً، وما أصابهم من قحط ومجاعة ورعب وخوف، فقد أحرِقَت أبنيتها ومعابدها، ونُهِبَت مخازنها وغلّتها وجفت أنهارها، إلا أن الشيء الذي يعد جديداً في هذا الدور هو بكاء الإله ننا (su’en) أمام أبيه انليل متسائلاً عن سبب الدمار، ومناشده أن يعطف على مدينته ، ويعيدها إلى سابق عهدها( )، حيث جاء ما نصه:
296. انليل أصاب المدينة بمجاعة ضارة.
301. أصبح شعبها مثل سمكة محجوزة (في بركة) تبحث عن ملجأ.
302. الكل طُرِحوا أرضاً لا أحد يستطيع النهوض.
340. الإله انزو En-Zu (سين) انتحب أمام أبيه انليل.
341. آه يا أبتي، أنت من أنجبني، لماذا تحولت بعيداً عن مدينتك أور التي أقيمت من أجلك؟
346. مدينة أور أضحت تلالاً خَرِبة كأنها قلبت بمعزقة.
348. آه (يا) انليل مدينتكَ ... أرض مهجورة.
352. يا أبتي يا والدي .. ما الذي فعلته مدينتي لكَ؟
353. يا انليل أعد مدينتي أور من عزلتها لتعانقك.
والقسم الرابع يتضمن جواب انليل البارد والقاسي لولده ننا الذي خابت آماله برفض أبيه استغاثته، ولم يكتفِ بذلك بل إنه وَبَّخَهُ على التشفق لمدينة اور التي كُتِبَ عليها الدمار وعند مجمع الآلهة، وهو قرار لا يبدل ولا يرد، فإن (أور) استوفت نصيبها من الملكية فينبغي نقلها إلى موضع آخر؛ لأنه لم يقدر أن تدوم الملوكية في بلد واحد.
إن رسالة المرثية هنا واضحة وهي تقول لنا إن عالم الإنسان قائم على الصيرورة والتبدل الدائم، والإنسان لا يكاد يطمئن إلى ثبات رغد الحياة وديمومته حتى يحم عليه قضاء الآلهة بفتنة، والدول والممالك لا تقوم وتزدهر فتصل إلى أوج عزها حتى تأتي ساعة انحدارها. ومدينة أور لم ترتكب ذنباً واضحاً ، ولكنها أمِنَت إلى رغدها ودوام مجدها( ) فاستسلمت المدينة لأعدائها ففعلوا فيها ما فعلوا من قتل وتدمير، وسلّط على من بقي منهم القحط والمجاعة، واندفع العيلاميون واكتسحوا المدينة وشعبها فاستسلم المدافعون عن المدينة( ) ويلخص النص رسالته هذه بكل وضوح في الأبيات الآتية:
360. هذه المدينة المهجورة قُدِّرَ أن لا ينطق.
361. بكلام فيها عدا المراثي والمناحات.
366. لقد منحت أور الملوكية، لكنها لم تمنح حكماً أزلياً.
367. منذ القدم، منذ أن ارسيت البلاد إلى يومها هذا.
368. من رأى منكم ملكاً باقياً.
وتذكر القصيدة أن الإله ننار (سين) أصابه حزن شديد؛ لما سمعه من أبيه إلا أنه امتثل لأمره وخرج من المدينة، وهنا وصف الشاعر وقوع الكارثة، وما حل بالمدينة على يد الغزاة:
373. الإله ننا الذي أحب مدينته، ترك مدينته.
387. مدينة أور التي كانت واثقة بقوتها، وقعت في مذبحة.
389. فمن لم يمت منهم بفعل السلاح مات بفعل الجوع.
397. واحسرتاه، ماذا نستطيع أن نقول حولها، ماذا نستطيع أن نضيف أكثر؟
398. متى تنتهي من هذه الفاجعة؟
399. أور في داخلها موت، وفي خارجها موت.
400. في داخلها نموت من الجوع.
401. وفي خارجها نقتل بأسلحة العيلاميين.
402. في أور العدو اضطهدنا، آه لقد انتهينا.
404. لقد فكوا مزاليج (أقفال) بواباتها، وها هي مازالت مشرعة إلى اليوم.
405. واكتسحوها، وكأنهم أمواج متدفقة عاتية.
406. فتحطمت أور بفعل السلاح مثلما يتحطم إناء الفخار
وعلى الرغم من ذلك يستأنف إله المدينة ننا (سين) التضرع والتوسل إلى أبيه الإله انليل؛ لإنقاذ المدينة من هذا التدمير المروع، وقد استجاب انليل هذه المرة لهذه الدعوة ، وأعلن مباركته لعودة أور، وإنقاذها تمهيداً لإعادة بنائها من جديد حيث اجتمع الناس مرة أخرى في أور من كل البلاد.
ويبدأ المقطع الخامس والأخير الذي انتظم في (39) بيتاً بمناشدة موجهة إلى الإعصار المدمر والمؤلم، بمغادرة مدينة أور، ومهاجمة أعداء سومر، وهم تيدنوم Tidnum والكوتيون وانشان (تقع في بلاد عيلام)، وينتهي بتضرع من شعب بلاد سومر إلى الإلهين آنو وانليل، بأن لا يغير النواميس الإلهية تجاه البلاد، وأن ينعما عليها الخير الوفير ليهنأ الناس في عيش آمن ومفرح:
483. آه أيتها العاصفة المرة تقهقري، ارجعي إلى بيتك.
484. أيتها العاصفة التي تحطم المدن، ارجعي إلى بيتك.
486. حقاً، العاصفة التي ضربت سومر، ضربت البلاد الأجنبية.
514. يا ننا مملكتك جميلة، رجعت إلى مكانك.
515. لعل الحكم الوافر يدوم إلى الأبد في أور.
518. يا ننا .. آه مدينتك، آه معبدك، آه شعبك.