السلام عليكم....
الانسان ، مخلوق ٌ ، بل لغز ٌ عجيب ..
و احسب ان ذاكرته واحدة من اعتى عجائبه ، فرائحة ما ...او صوت ، او كتاب او كلمة ، يمكن ان تحرك مخزوناً من حكايا ، ظننا اننا قد دفناها مع ايامها للأبد ...
و موقف بسيط حدث لي اليوم ، اعاد لي مشاهد مرت منذ اعوام طويلة ...بطلها "حمزة " .
كما تعرفون هذا موسم الحساسية الموسمية ، و انا اعاني من العطاس فيه ، و حين تكون النوبة شديدة يرافقها عارض مزعج ...هو نزيف بسيط من الانف ...و في الطب ..حين يحدث اي نزف من جرح ، عليك ان تضغط عليه لتتكون خثرة تسد جرحك ..و حين يكون الجرح داخل الانف نضع ما نصطلح عليه طبيا ب ( پاكة ) ..و هي ان تكور قطعة شاش و تدخلها تجويف الانف لتسده و تضغط على النزف ليتوقف ..
و هذا ما فعلته ببساطة ، و هذا ما اشعل في رأسي تلك الصور ، و فجر قنبلة تتابعها بشكل غريب ، كفيلم مر كل شيء امام عيني كأنه بالامس جرى ... تذكرت حمزة ....و ليتنا احيانا لا نتذكر.
حمزة ....طفل في الثالثة عشرة من العمر ، كان يعمل عند احد الفيترچية
( مصلحي السيارات ) ، كان حمزة معيل عائلته لأنه كان يتيماً ، كل من تعرفته من عائلته في ذلك الوقت الذي رقد فيه في المستشفى كانت والدته ، سيدة ريفية الاصل ، بسيطة ، تقطر حناناً و محبة و طيبة ...
جاءت مع حمزة الذي ، عانى وقتها ، بسبب عمله في تنظيف محركات السيارات لدى الاسطى ، و استخدامه لمشتقات النفط و البنزين بكثرة ، عانى من سرطان الدم .
كان طفلا ً و رجلاً في آن واحد ...يشد من ازر امه الباكية رغما عنها حين تراه يتألم ...كانت مشكلة حمزة الاكبر وقتها انه ينزف كثيرا ، و خاصة من الانف ، و كانت الپاكات تملأ انفه باستمرار و لا نجرؤ على رفعها لكي لا يموت نزفا ...كان منظره يفطر القلب ...و لكنه كان يتعالج .
قضيت شهرا كاملا في ردهة السرطان ضمن اقامتي هناك ..و كان حمزة و امه رفيقي معظم الوقت هناك لأنني كنت اخاف عليه كثيرا ...فخطأ واحد يعني ان نفقده ، كنت اتفقده باستمرار و اتأكد انه مستقر ضمن خفاراتي في الطابق ..و كانت والدته تتحدث الي كمن يلجأ الى سند ، و كنت اعيد طمأنتها باستمرار ...انه يتعالج و الشفاء بيد الله .
انتهت اقامتي في الطابق و غادرته الى مكان اخر ضمن نفس المجمع ...و في يوم من الايام كنت في ساحة المستشفى اتجه نحو الطوارىء ، سمعت صوت امرأة ينادي من خلف السور الحديدي ....
- دكتورة ....دكتورة ...
التفت الى مصدر الصوت و اتجهت الى السور ، كانت ام حمزة في الخارج جالسة على الارض ، كانت تخاطبني :
- حمزة مات دكتورة ....حمزة مات .
اتكأتُ الى السور ...حاولت ان ابقى متماسكة ...لم استطع ان انطق بشيء ، نظرنا الى بعضنا ، كانت تبكي ، كانت تنوح ، استطاعت ان تخرج شيئا مما بها الى فضاء الله و تحت سمائه ، اما انا فلم يكن مسموحا لي ببدلتي البيضاء الا ان اصمت و ادفن تلك اللحظة القاتلة في اعماقي ، لأستعيدها ، و حمزة ...ببكاء مُر ...مع كل پاكة .
هي دعوة لنلعن الطب .. لأنه لعنة لا تنتهي مآسيها .
دمتم .