في الأيام القليلة الماضية قام متظاهرون غاضبون في بلجيكا باستهداف كافة تماثيل الملك الأسبق ليوبولد الثاني،
حيث حطموا بعضها وأضرموا النيران في البعض الآخر وخربوا بعضها بالطلاء الاحمر
من هذا الملك؟
ولماذا كل هذا العداء نحوه؟
وما هي قصة الأيادي المقطوعة؟
فيما قبل العام 1865 كان الملك المستقبلي لبلجيكا "ليوبولد الثاني" يمارس نوعًا من الضغط على كبار المسؤولين من أجل إقناعهم بقبول إنشاء حكم استعماري في الشرق الأقصى أو أفريقيا،
لكن بلجيكا التي كانت تعيش حينذاك تحت حكم والده كانت ترى الأمر ضربا من المجازفة غير محسوبة العواقب.
رغم الرفض الرسمي لطلبه، لم يدب اليأس في نفس ليوبولد الثاني، حيث حول دفة أحلامه العامة إلى شخصية،
وقرر البحث عن مستعمرة خاصة لنفسه، فقدم الرعاية لعدد من المستكشفين أبرزهم هنري ستانلي لاستكشاف منطقة حول نهر الكونغو، على مدار سنوات طوال.
بعد خلافته لأبيه على عرش بلجيكا ازداد اهتمام ليوبولد بنهر الكونغو وما حوله، حيث استمرت فرقه الاستشكافية في مسح المنطقة،
ومع مرور السنوات أصبح تواجده على هذه الأرض واقعًا، وأنشأ الرابطة الأفريقية الدولية هناك وأعلن أنها رابطة خيرية تهدف لنقل الحضارة ومساعدة السكان.
مثّل نهر الكونغو وما حوله منطقة فاصلة بين مناطق الاستعمار البريطاني البرتغالي ومناطق الاستعمار الفرنسي،
لذلك قرر مؤتمر برلين 1884 - 1885 أن تكون هذه المنطقة على الحياد، حيث تم الاعتراف برابطة الكونغو الأفريقية،
واعتبرت المنطقة ملكية خاصة للملك ليوبولد الثاني.
بلغت مساحة المنطقة التي تم منحها للملك ليوبولد الثاني أكثر من 2 مليون و300 ألف كم مربع، أي 80 مرة ضعف مساحة بلجيكا الحالية تقريبا،
ومنذ ذلك الحين بدأت مسيرته الاستعمارية تتخذ صفة الرسمية بل الشخصية، حيث قام بإنشاء فرق مسلحة من المحليين للسيطرة على المنطقة.
أعطى ليوبولد الثاني مستعمرته الجديدة اسم "دولة الكونغو الحرة" على اعتبار أنها ستكون منطقة تجارة حرة ودولة عازلة بين النفوذ البريطاني والفرنسي،
تركز جهود ليوبولد في تلك الفترة على إحكام سيطرته على المنطقة، وكبح جماح القبائل الرافضة لهذا الاستعمار وهو ما كان
أصيب ليوبولد بخيبة الأمل في الخمس سنوات الأولى حيث أن آماله الاستثمارية لم تلتق مع النجاح بعد
فصادرات العاج التي كان يعول عليها لم تقدم له كثير من الربح، فأضحت إدارته الاستعمارية مدينة ومتخلفة عن سداد التزاماتها في كثير من الأحيان، وبدا في ذلك الوقت أن مغامرته قاربت على الانتهاء.
لكن كل هذه الأمور تغيرت بعد العام 1890 حينما كثر الطلب العالمي على المطاط الطبيعي من أجل استخدامه في أشكال صناعية عدة،
وهو الأمر الذي استغله ليوبولد حيث قام بإجبار الذكور الكونغوليون البالغين على جمع المطاط على سبيل السخرة وذلك من أجل تصديره إلى أوروبا.
تحولت المستعمرة الكونغولية إلى منجم من المطاط يدر على مالكه ليوبولد ومملكته الصغيرة في قلب أوروبا أرباحًا طائلة، وارتفع الإنتاج 4 أضعاف في غضون خمس سنوات. وذلك نتيجة التوسع في تسخير الكونغوليين أكثر وأكثر للقيام بأعمال الجمع.
حقق نظام ليوبولد ودولته الحرة كما دعاها نجاحًا باهرًا ساهم في الخطو بمملكته الأوروبية نحو الرفاه الاقتصادي،
لكن لم يكن هذا الرفاه إلا على حساب حياة ملايين البشر من الكونغوليون الذي قتلوا وهم تحت مقصلة السخرة يجمعون المطاط تحت ظروف قاسية من الجوع والفقر والعذاب
مع تزايد الطلب على المطاط أنشأ النظام الاستعماري قوى مسلحة محلية عرفت باسم الكابيتا،
كان عملها يتلخص في تحويل كامل المجتمع الكونغولي إلى مجتمع رقيق،
لا يفعل شيء سوى جمع المطاط، حيث تُرك لهذه القوات حرية فعل أي شيء من أجل زيادة الإنتاج.
مع غياب القانون تم اتباع طرق وحشية لزيادة الإنتاج، حيث سنت القوى الاستعمارية أعرافا خاصة تقضي بمعاقبة كل عامل كونغولي لا يفي بجمع حصته اليومية من المطاط بقطع يد طفله !من أجل إرهابه وحضه على العمل،
كما قضت تلك الأعراف بإبادة أي قرية تقاوم الاستعمار.
أصبحت سلال الأيدي المقطوعة، الموضوعة عند أقدام القادة الأوروبيين كل يوم، رمزًا لدولة الكونغو الحرة، بل رأى هؤلاء القادة في هذه الأيدي دليلًا على إحكام السيطرة،
وصار الجندي الذي يحضر أيادي أكثر مفضلًا ومكافئًا بتقصير أمد خدمته، حتى عرفت الكونغو بأرض الأيدي المقطوعة!
أما النساء فلم يستطيعوا أن يقوموا عن الرجال بزراعة الأراضي المهجورة، وهو ما سلم المجتمع إلى مجاعة صادمة عام 1899 أفضت بحياة كثيرين.
حوصر المجتمع الكونغولي حينذاك بالموت من كل اتجاه، فبجانب الفظائع وجرائم الاستعمار البلجيكي انتشر الجوع والمرض،
وعمت الأوبئة فاتكةً بمئات الآلاف، ونتيجة لكل هذه الظروف وبحسب بعض التقديرات تناقص عدد السكان من 30 مليون عام 1885 إلى النصف عام 1908.
أما الأطفال فقد انتزعوا نزعا من أسرهم وأقيمت لهم مستعمرات خاصة ممولة مباشرة من الملك ليوبولد وتحت إشراف مبشرين كاثوليك، وذلك بغرض الاحتفاظ بهم مستقبلًا كجنود، لكن كان الواقع صادما والظروف قاسية، حيث توفي أكثر من 50% منهم بسبب الأمراض.
كانت كل هذه الفظائع والانتهاكات تتم في في غياب تام للمجتمع الدولي، ولم تستقصي الصحافة أمرها إلا بعد عقدين من الزمان،
حيث تولدت حركات شعبية وحملات من مثقفين في بريطانيا وأمريكا تطالب بالتدقيق في جرائم ليوبولد، بل وتطالبه بالتنازل عن ملكيته للكونغو.
في عام 1908 وبعد الحملات الدولية الكبيرة المناهضة لجرائم ليوبولد، أعلنت بلجيكا رسميًا الكونغو مستعمرة تابعة لها، وأسمتها الكونغو البلجيكية، وبعد ذلك بعام توفي ليوبولد، تاركًا خلفه ملايين الضحايا، وواصمًا بلاده بعار يلاحقها إلى الأبد.
من الغريب انه حتى الآن لم تعتذر بلجيكا عن جرائم ليوبولد في الكونغو، بل قامت بتخليد ذكراه ونثرت تماثيله في كل مكان على أرضها،
وذلك باعتباره مؤسس دولتهم الحديثة حتى جاء مقتل جورج فلويد ليحيي ذكر تلك الجرائم، وعلى إثر ذلك حطمت تماثيل ليوبولد وخربت من قبل محتجين قبل أيام.
الغريب ان ليوبولد عمل كل هذه الجرائم دون أن يزور الكونغو مرة واحدة !
وحوش مو بشر