لعلَّ الشاعرَ هُناءَةَ بنَ مالك بنِ فَهم الأزديَّ (ت.404 ق.هـ)، أقدَم مَن قَرَن بين "الأعناق" و"المطيّ" في قَوله:
إِذَا مَا بَدَرْنَا بَدْرَةً نَصَبُوا لَنَا *** قِسِيًّا كَأَعْنَاقِ المَطِيِّ المُخَدَّمِ
(انظر البيت في أنساب العرب المعروف بتَارِيخِ العَوْتَبِي (المتوفى: 511هـ)، تحقيق: محمد إحسان النص، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان، ط4، 2006م.
أمّا كُثيّر عَزَّة الشاعر الأموي على عَهد عبد الملك بن مروانَ ، فقَد أوردَها متأخرةً عن سابقه، ولكن السياقَ الشعري الذي ساقَها فيه أجملُ وأبدَعُ وأحلى :
ولما قضينا من منى كل حاجةٍ *** ومسَّح بالأركان من هو ماسحُ
وشُدَّتْ على حُدْب المهارى رحالنا *** ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا *** وسالت بأعناق المطيّ الأباطح
ولم نخش ريب الدهر في كل حالة *** ولا راعنا منه سنيح وبارح
الغَريب أن الأبيات تُروى مع أبيات أخرى متحدة الروي والوزن، وتُنسَب إلى كثير ومنهم من ينسبُها إلى عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى...
وما زلت أرجو نفع سلمى وودها *** وتبعدُ حتى ابيضَّ مني المسائح
وحتى رأيت الشخص يزداد مثله *** إليه؛ وحتى نصف رأسي واضح
علا حاجبَيَّ الشيب حتى كأنه *** ظباء جرت منها سنيح وبارح
وهَزَّة أظعان عليهن بهجة *** طلبتُ، وريعان الصبا بي جامح
فلما قضينا من منى كل حاجة *** ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا *** وسالت بأعناق المطي الأباطح
وشُدتْ على حدب المهاري رحالنا *** ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
قفلنا على الخوص المراسيل وارتمت *** بهن الصحاري والصفاح الصحاصح
الأبياتُ الثلاثة المشهورة أثارَت جدلا بين النقاد والبلاغيين واللغويين، وما زلَ جرسُها يُطرب الآذان إلى اليوم؛ انظُرْ إلى صَنيع كُثيّر حينَ عبَّر بسَيَلان الأعناق فقَد استعارَ السيلانَ للسير السلس اللين، وهي استعارة مألوفَة مُتداولَة مُبتذلة قريبة المأخذ، ولكنه رَفَعَ عنها ابتذالَها بأن أدخلَ أيضاً المجازَ العقلي في إسناد السيلان إلى الأباطح؛ ليُعبّرَ عن كثرَة الركبان في الأباطح؛ حتى كأنها هي التي تسير، ثم جاء بحرف الجر الباء في الأعناق؛ ليدل على سُرعة السيلان وكأنه سيلانُ الماء وانسيابُه، فمبدأ الحَرَكة والسرعَة والاتجاه حركةُ أعناق الإبِل، ففي ذلك مَهارةٌ في تَحويل المـألوف إلى مَعْنى غَريب، ونحو ذلك قول ابن المعتز:
سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أن صاره بوجوه كالدنانير
حيث استعار السيلان لسرعة سير القوم إلى الممدوح حين دعاهم، وهي استعارة مبتذلة أزال الشاعر ابتذالها بالمجاز، وهو إسناد السيلان إلى الشعاب
وإذا عُدنا إلى ما استهللْنا به هذه الكلمةَ، حول اقتران المطي بالأعناق اقترانَ إضافَة، ألفينا أن الشعراءَ من بعدُ استجادوها وأوردوها في أشعارهم، فهذا الشاعرُ الجاهلي مضرس بن ربعي الاسدي يقولُ:
تبينتُ أعناقَ المطيِّ وصُحبتي *** يقولون موقوف السعير وعامِرُه
ونافعُ بنُ الأسود [ت.37هـ] :
مُجنّبة تَشكو النُّسورَ من الوَجا ** يُعاندْنَ أعناقَ المطيّ الرَّواسم
وقيسُ بنُ الملوَّح، مجنون ليلى [ت.68هـ] يقول:
فَلَو كانَ في لَيلى شُداً مِن خُصومَةٍ *** لَلَوَّيتُ أَعناقَ المَطيِّ المُلاوِيا
والنجاشيّ الحارثيّ [ت.49هـ] يقولُ:
وَقُمْتُ إلى حرْفٍ كَأنَّ قُتُودَهَا *** إذا دَقَّ أعْنَاقُ الْمَطِيّ عَلَى فَحْلِ
والشاعر علي الجَهم [ت.249هـ] يقول:
وَهَزَزتُ أَعناقَ المَطِيِّ أَسومُها *** قَصداً وَيَحجُبُها السَوادُ الشامِلُ
ابنُ خفاجةَ الأندلسي [ت.533هـ] يقول:
فَلَوَيتُ أَعناقَ المَطِيِّ مُعَرِّجاً *** وَنَزَلتُ أَعتَنِقُ الأَراكَ مُسَلِّما
وقد أكثر الشريف الرضي [ت.406] من هذا المركب الإضافي في أشعاره، ومن ذلك قولُه:
أَبيتُ وَلي في كُلِّ أَرضٍ عَزيمَةٌ *** تُزَعزِعُ أَعناقَ المَطِيِّ المُحَزَّمِ