.
التغريبة
…
قَدَمايَ الكبيرتانِ آخرُ ما تبقَّى من الأسلاف، إنهم الزُّرَّاع، الزُّرَّاعُ الذين صاروا غزاةً، حتى تذوَّقوا النبيذَ على أبوابِ أنطاكيا.
في الطَّريقِ إلى المجدِ، مرَّوا بوادٍ كان ينبتُ فيه زعترٌ بريّ، ويرعى راهبٌ عنزتيه، كانت تحدُّهُ بركةٌ متَّسعةٌ وقفَ فيها المعمدانُ ذات يومٍ يُحمِّمُ تائبيه، ثم جاءها إنكشاريٌ كي يغتسلَ من الجنابةِ بعد أن قتلَ الغلام.
هكذا عبَرَ الشِّتاءُ كاملاً دون أن يتمكَّنَ الفلاحون من التَّواؤمِ وسراويلِ
الحرب، إذ كانوا يرفعونها على حِبالِ الخيمةِ كلَّما جاءَ الليل، حتى يتركوا لأعضائهم حقَّ التَّنفُّسِ العميق. لكنهم – مخافةَ سوءِ السُّمعةِ، واستجابةً لنظامِ الطَّاعةِ الذي كان يسهرُ عليه الباشا إبراهيم – اضطرُّوا إلى اعتيادِ المُحْدَثات؛ تحوَّرتْ أقدامُهم لتأخذَ شكلَ الأحذيةِ الثَّقيلة، ثم دأبوا على استهلاكِ الحنين.
كانوا كلَّما عسكروا على ربوةٍ، نزلوا إلى الأسواق، واشتروا شايًا وتوابلَ، ارتادوا خماراتٍ لها حوائطُ من أحجارٍ داكنة، على موائدِها جالسوا نساءً يرطنَّ بما يكسرُ القلبَ، ويمضينَ دونَ أن تُعرفَ لهن أسماء.
في الصَّباحِ الباردِ اصطفُّوا تحتَ النَّفيرِ، كي يخبروهم أن الطَّريقَ إلى المجدِ ينتهي عندَ هذه الشَّجرة، وأشاروا إلى الَّلوزِ الذي بانتْ بشائرُه.
حين عادوا إلى الديار، بدوا تحتَ شمسِ المغيبِ كأن قاماتهم طالت، لمرآهم توقفَ الأولادُ عن اللعبِ، وطاروا إلى البيوتِ بأوحالهم.
كان الرجالُ مرهقين، فاستسلموا للنُّعاسِ في حجورِ النِّساءِ التي ينبعثُ منها خليطُ الرَّوائحِ؛ من الحِنَّاءِ إلى الرَّوَثِ النَّاشف، وفي الليالي التَّالية استسلموا للنُّعاس في حجور النِّساء.
كان طبيعيًّا – بمضيِّ الوقتِ – أن تتهرَّأَ أحذيتُهم الأميريةُ، إذ صاروا يتعثَّرون إذا مشوا حفاةً في السِّكَك، لذلك استبدلوا بها لفائفَ الكِّتَّان، ثم جلسوا مقرفصينَ على الجسور، يرقبون المحاريثَ الصَّدِئة، ويحملون فوق أكتافِهم عصيًّا من أغصانٍ غلاظ، أجل.. كانت غلاظًا بما يكفي لملءِ التَّجاويفِ التي حفرتْها البنادق.
منقوول