البصرةُ مَكْنَزُ الآثارِ
يُعدُّ وادي الرافدين مِن أقدمِ المناطق في العالمِ القديم، وفيه ظهرتْ المدنُ، وانتشرتْ على ضِفافِ الأنهار، من جنوبه إلى شِماله، ابتداءً مِن عَصر السومريِّين، مُروراً بالأكديِّينَ والبابليِّينَ والآشوريِّينَ، ومِن أشهر تلك المُدن التي امتلكت ثِقلاً حضاريّاً، وعُمقاً تاريخياً في العصور القديمة: أَرِيدو، والوَركاء، وأُور، ونَفر، وأَكَد، وبابل، وآشور، ونِينوى، والحَضَر.
وفي الجنوب من وادي الرافدين– في المنطقة الممتدّة مِن نفر(محافظة الديوانيّة) إلى الخليج العربيّ– استوطن السومريّونَ، الذينَ وضعُوا اللَّبِنات الأولى للحضارة التي أسهمَتْ في إثراءِ الشُعوب بالمعارف والعلوم في مُختلفِ جوانبِ الحياة، وكان لها الدورُ الرئيسُ في تأسيس حضارة القبائل الجزريّة، التي كان الآراميُّون أحدها، وبَرزَ مِن تلك الأقوام الآراميّة العربيّة القديمة الكلدانيّونَ، الذين سكنُوا جنوبَ العراق.
كانت البصرةُ إحدى مُدن جَنوب العراق التي سَكنها الكلدانيّونَ، وقد أَطلقوا عليها اسمَ تَدمُر، أو تردم، أو تردن، وحُوِّرَ هذا الاسم إلى تَرَدُون، أو تَريدون في زمن الإغريق بعد غزوِ الإسكندر المَقدونيّ، وحين وقعَتْ جميعُ المُدن العراقيّة تَحت قَبضة الفُرس في عَهد المَلك كُورش سنة 538 ق.م، سُمّيت البصرة «دهشتا باد أردشير»، وممّا يُؤكّد ذلك، المُخلّفات الأثريّة التي عُثِر عليها في البصرة، التي تَعودُ إلى العهد الكلدانيّ والفارسيّ، فقد عُثر في جبل سنام -جنوب غرب البصرة- على يواقيتَ صغيرةٍ، عليها نُقوشٌ كلدانيّةٌ وفارسيّةٌ، وعليه فإنّ مدينةَ البصرة كانت تتمتّع بدورٍ مُهمٍّ في حياةِ شِبه الجزيرةِ العربيّةِ قبل الإسلام، وإنّ ساكنيها كانُوا على قَدرٍ عالٍ مِن الثقافة والتحضّر.
أمّا في العصر الإسلاميّ، فتُعدُّ البصرةُ أوّلَ مَدينةٍ أنشأَها العربُ في العراق عام 14هـ، ثُمَّ عُرِفتْ بعدّة مُسمَّياتٍ مِنها: «خِزانةُ العَرب، وعينُ الدّنيا، وفينيسيا الشّرق»، وعُدَّتْ إحدى جِنان الدّنيا الأربَع.
ضمّتْ البصرة بين جَنباتها العديدَ مِن المواقع الأثريّة، التي تَمَّ التنقيبُ عن بعضِها وأُعلِن عنها رسميّاً، وقد بلغَ عددُها تسعونَ موقعاً مكتشَفاً، ومواقعُ أُخَرُ غيرُ مكتشَفةٍ إلى الآن.
ومِن كلِّ ما تقدّم بيانه، تتبادرُ إلى الذِّهن بعض التساؤلات المشروعة، منها:
ما أهميّة الآثار؟
ما إمكانيّة الافادة مِن الآثار؟
وفي مَعرَضِ الإجابةِ عن هذينِ السؤالينِ فإنّ أهميّةَ الآثارِ تكمُن في قيمتها العلميّة والتاريخيّة والثقافيّة، والاقتصاديّة، فمِن الناحية العلميّة، تحتوي الآثار على معلوماتٍ مُهمّةٍ عن تجارب الأقوام السالفة في مَجالات الحياة المختلفة، التي يُمكننا مِن خلالها معرفة مُستوى تطوِّرهم العقليّ والمعرفيّ، أمّا بخصوص قِيمتها التاريخيّة، فإنها تُعـدُّ وثائق مهمّةً جداً، يُستندُ إليها في دراسةِ التاريخ وتحليل أحداثه، ومِن الناحية الثقافيّة تُبيّنُ الآثار طبيعة ثقافة القُدماء، وطَريقة تَعاطيهم مع الحياة الاجتماعية في تلك الأزمنة، وأعرافَهم وتقاليدَهم، أمّا قيمتها الاقتصاديّة فإنّ لها عائداتٍ ماليّةً هائلةً تُساق بصورةٍ مباشرةٍ، أو غير مباشرةٍ، من خلال تَوظيفِ الآثار والتُراث الوطني تَوظيفاً سَليماً في مَجالِ السّياحة، إذْ تُعدُّ السّياحةُ ثَروةً وطنيّةً كبيرةً، يُمكِنُ استثمارُ وارداتِها بما يحقِّقُ أرباحاً ماليّةً كبيرةً، لما يَتمتّع به بلدُنا من مَواقع أثريّة تاريخيّة موغلة بالقِدَم، وتُعدّ البصرةُ إحدى مُدنِ العراقِ التي ضَمّتْ أرضُها العديدَ مِن تلكَ المواقع المهمّة.
مِن جانبٍ آخر لا يُمكنُ عدُّ الاهتمام بالآثار هدراً للوقت والجهد والمال، ولا الدعوةُ للاهتمامِ به نوعاً من أنواعِ الترفِ الفكريّ، بل هو إحساسٌ بالمسؤوليّةِ تجاه ذلك الإرث العظيم، الذي اكتنزته أرضُنا المِعطاء، فمِثلما ضَمّتْ بين جَنَباتها البترول، فإنّها احتضنتْ إرثَ الآباءِ والأجدادِ، الذي إنْ استُغلَ بشكلٍ سَليمٍ فإنّ العائدات الناتجة عنه ستُضاهي عائداتِ بعضِ الصّناعاتِ المهمّةِ، فلا يُمكنُ الاستهانةُ بآثارنا؛ لأنّها مَعالمُ سياحيّةٌ مهمّةٌ ذاتُ تأريخٍ أصيلٍ، يَتوقُ إلى ارتيادها العديد مِن السُّيِّاح من كلِّ أصقاع العالم، ومِن هُنا فإنّ ثمّةَ حاجة ماسّة لتأهيلها، والاعتناء بها، كي تَدرَّ على الدولة بعوائدَ ماليّةٍ تُسهمُ في رفع مستوى الدخل الوطنيّ، وهذا ما دَعتْ إليه المرجعيّةُ العُليا من خلال سَماحة العلّامة الشّيخ عبد المهدي الكربلائيّ، المتولي الشرعي للعتبة الحُسينيّة المُقدّسّة، في إحدى خُطب الجمعة، حينما دعا إلى ضَرورةِ تَنويعِ مَصادرِ التمويلِ في البلد، وإيجادها مواردَ بديلةٍ مِن الاعتماد على المورد النفطيّ، الذي استندت إليه الدولة في بِناء اقتصادِها، عادَّةً إيّاه الموردَ الوحيدَ، متناسيةً المواردَ الكثيرةَ الأُخَر التي يَتمتّع بها البلد، والسّياحة أحدُ أهمّ تلك الموارد.
لا شكّ في أنَّ للبصرة تَأريخاً عَريقاً يُؤهّلُها أن تكونَ في مُقدَّمة المُدن السياحيّة في المنطقة، لكن
– ومع الأسف الشديد – يُوجد العديد من المواقع الأثريّة التي تَكتنزها أرضُ مَدينة البصرة، لم يتَمّ التنقيبُ عنها، واكتشافها، إلى الآن، ما اقتضى الحاجةَ الماسّةَ إلى زيادةِ الخبرات في مجالِ التنقيب، والكشف عن الآثار؛ لزيادة المواقع الأثريّة وتنوّعها، وكشف أسرارِها، وتَمكينها من أداءِ الدور الكبير في حركة السّياحة، من أجلِ تَعريفِ العالم بحضارةِ المنطقةِ.
ومِن الضروريّ أن يحتضنَ ما يَتمّ إيجادُه مِن قِطعٍ أثريّة وتُراثيّة، وآلات حرفيّة قديمةٍ، مَتحفٌ ذو مواصفاتٍ عالميّةٍ عاليةٍ، ليُعبّرَ عن التأريخ الحقيقيِّ للمدينة، ويَحكيَ ما مرّت به مِن أدوارٍ متنوّعةٍ، ثمَّ العملُ على إقامةِ مؤتمراتٍ تتعلّقُ بالتنقيبِ عن الآثارِ، وحِمايةِ المواقع الأثريّة وصِيانتها، والاهتمام بالتسويق الإعلاميّ الدوليّ لها، من خلالِ عَمل مَعارِض خارجيّة في العديد من مُدن العالم، ووضعِ خُطّةِ عَملٍ، وخريطةِ طريقٍ لتطوير المؤسّسة الآثاريّة في المدينة، وتَوظيفها في جَذْبِ السُّيِّاح، والإفادة من تجارب بعض الدول الأجنبيّة والعربيّة وخبراتها، التي تعتمدُ على مواردِ السّياحةِ للمناطق الأثريّة في دعم اقتصادِها،
إنّ العديد مِن مُدن العالم تفتخرُ بتراثِها، وتَعملُ على تَجسيد ذلك من خلال المُحافظة على مُكتشفاتِها الأثريّة وسَلامتها، جاعلةً منها مَورداً رئيساً في بِناء اقتصادها الوطنيّ، أوَليس مِن الواجبِ أن نفتخرَ – نحنُ أيضاً – بالبصرة الفيحاء بما اكتنزته مِن آثارٍ لحضاراتٍ غيّرت مجرى التأريخ، ابتداءً بالسُّومريّة، وانتهاءً بالإسلاميّة؟، وأن نُحافظَ على ذلك المَوروث التاريخي الكبير، مِن أجل أن يَعرفَ العالمُ أجمعُ تأريخَ المدينةِ العظيمَ، وأن نَجعلَ مِن الواردات التي تَأتي بسببها عاملاً مُساعداً في إنعاشِ حَركةِ اقتصادِ البلدِ، فلنفكِّر بذلك مَعاً، وبصوتٍ عالٍ. كي نسمع الجميع ما يتوجب فعله تجاه مدينة البصرة.