في القلب المكاني ووزن افتعل
ملاحظة علماء العربية القدماء هذه الظاهرة، كما في (جبذ) عن (جذب) أو (طَأْمَن) عن (طَمْأَنَ)، وتكون بين صوتين متجاورين وقد تكون بين متباعدين كما في (اكرهفّ) عن (اكْفَهَرَّ)، وذكر بعض المثل من العامية أيضًا. ثمّ يبدي ملاحظة مهمة منطلقة من إهمال النظام الكتابي العربي للعلل القصيرة (الحركات) وهي إهمال القدماء لأمثلة القلب المكاني بين الصحيح والعلة أي بين الحرف والحركة وأشار إلى أنهم لم يغفلوا عن هذه الظاهرة بل ذكروها ولكن خارج إطار القلب المكاني، ومن ذلك ما يقتضيه الإدغام في مضارع الفعل المضعف، نحو (يمدُّ):
ي ــَــ م د ــُ د ــُ > ي ــَــ م ــُ د د ــُ = يَمُدُّ
ويفسر هذا في إطار قانون (الحدّ الأدنى من الجهد) وهو ما عرف في التراث بالتخفيف، وهو هنا اختصار لنطق صوتين في لقاء واحد لأعضاء النطق، وهو ما يقتضي في الغالب حذف حركة كما في ماضي الفعل يمدّ: مَدَدَ> مَدَّ. ولكن هذا القلب لا يعمل إن خالف قانون الحد الأدنى من الجهد فلا يكون في الفعل المتصل بنون النسوة (يمددن): ي ــَــ م د ــُ د ن ــَــ؛ لأن ذلك يؤدي إلى تجاور ثلاثة أصوات صحيحة [أي التقاء ساكنين] وهو ممتنع في العربية، وما ورد خلاف ذلك في لهجات عربية نادر.
وانتقل لبيان قياسية القلب المكاني مشيرًا إلى تقرير القدماء كونه سماعيًّا لا قياسيًّا، وبيّن أن هذا صحيح إن كان القلب بين صحيح وآخر، وأما بين صحيح وعلة فهو قياسيّ.
وبعد هذا الشرح الواضح لظاهرة القلب المكاني بين الصحاح أو بين الصحاح والعلل (الحركات) خصص القول عن الفعل على وزن (افْتَعَلَ). فهو يرى أن الأفعال هي نتيجة قلب مكاني: تْفَعَلَ> فْتَعَلَ، واستدل على ذلك بأدلة هي:
1-أن أمثلة هذا البناء في لغات سامية كالعبرية والآرامية تقدمت التاء على الفاء، مثل (افتقد) في العبرية: (هتبقد)(1) hitpaqad.
2-تقع أحرف الزيادة أكثر ما تقع قبل فاء الفعل: أفْعَلَ، اِنْفَعَلَ، تَفاعَلَ، اسْتَفْعَلَ.
3- المماثلة بين الصحاح في العربية خلفية أي يؤثر التالي على الأول كما في تثاقل> اثّاقل، متْزمّل> مزّمّل.
وهذا مشهور في كتب الصرفيين والقراءات.
وينطلق من هذه المقدمة إلى القول إنه لولا أن (افتعل) في أصله اتْفَعَلَ لصار الفعل ازتهر استهر أي بهمس الزاي؛ ولكن الفعل تحولت فيه التاء إلى مقابلها المجهور ازدهر، وهذا يدل على تأثير الزاي وأن المماثلة سبقت القلب:
اتزهر> ادزهر، ثم: ازدهر.
ولا ينطبق هذا على (اتّخّذَ، واتّحدَ) لأن فاء الفعل حذفت وعوض عنها بتضعيف الفاء.
وقال أستاذنا «والقلب المكاني في وزن اتفعل شمل جميع اللهجات العربية، ومنها اللهجة المصرية ولعلّه حدث في العربية الأم ( Proto Arabic) أي اللغة التي تفرعت منها اللهجات العربية المختلفة»(2)، وهو يعني أن البناء الأصلي الذي فيه التاء قبل الفاء مستمر في جميع لهجات العرب الحديثة، وليس هذا صحيحًا فلهجات الجزيرة مماثلة للفصيحة فالتاء بعد الفاء، فهم يقولون احترف، ابتعد، ابتلش، ارتعد.
وقال إنه يخالف عبدالرحمن أيوب الذي يرى (اتفعل) في المصرية منقلب عن (افتعل) الفصيح، لأنه لو كان كذلك لقيل في انتظر اتنظر وفي انتخب اتنخب، وأما أمثال اتشهر واتعدل واتمنع فهي من قبيل إبدال النون من انفعل تاءًا؛ فالأصل انشهر وانعدل وانمنع، والدليل على ذلك أن معناها معنى الفعل المطاوع على بناء انفعل وهو فعل انعكاسي يماثل الفعل المبني للمفعول في دلالته فاتشهر بمعنى شُهِر، واتعدل بمعنى عُدِل، واتمنع بمعنى مُنِع.
ولم يبين أستاذنا علة عدول العربية من البناء اتفعل إلى افتعل، وهو يحدث في السامية الأولى إن كانت الفاء من أصوات الصفير ولعل ذلك عمّم