عرفت بلنسية عاصمة شرقي الأندلس في أواخر عهدها الإسلامي رهطًا من القادة والمفكرين، وكان من بين هؤلاء سياسي ومفكر بلنسي يُعدُ شخصية من أعظم شخصيات التاريخ الأندلسي، هذا السياسي المفكر هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي المعروف بابن الأبّار.
مولد ابن الأبّار ونشأته
ولد ابن الأبّار بمدينة بلنسية في سنة 595هـ= 1199م في بيت علم ونبل، ودرس الحديث والفقه على أقطاب عصره، وكان بين أساتذته أعظم علماء الأندلس يومئذ، وإلى جانب الحديث والفقه برع ابن الأبار في اللغة والأدب، وشغف بالأخبار والسير، ورحل في مطلع شبابه إلى غربي الأندلس، فزار قرطبة وإشبيلية وبطليوس، وهو يأخذ أينما حل عن أساتذة العصر، واستمر في رحلته عاكفًا على دراساته حتى عاد إلى بلنسية موطنه ومثوى أسرته في سنة 619هـ= 1221م.
دور ابن الأبّار السياسي
عاد ابن الأبّار إلى بلنسية، وعقب عودته تولى منصب الكتابة لوالي بلنسية الموحدي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، ولكن السيد أبا عبد الله توفي بعد ذلك بقليل في سنة 620هـ، وقام في ولاية بلنسية مكانه ولده السيد أبو زيد عبد الرحمن، فاستمر ابن الأبار في منصبه للوالي الجديد، وزادت حظوته ومكانته، ولم يلبث أن غدا موضع ثقة السيد وتقديره، وكان ذلك بالنسبة لابن الأبار بداية حياته السياسية التي أخذت من بعد ذلك تتقلب في مراحلها المتعاقبة المؤسية.
وكانت الحوادث في شرقي الأندلس يومئذ تؤذن بتطورات خطيرة، حيث كانت الأندلس في ذلك الوقت ولاية مغربية تحت حكم دولة الموحدين التي بدأ سلطانها في الاندلس يهتز بعد هزيمتها في موقعة العقاب سنة 609هـ= 1212م، وبدأت تدخل في دور انحلالها بسبب الحركات القومية المحلية، وكان شرقي الأندلس بالأخص مسرحًا لموجة جديدة من الصراع بين القوى الوطنية والسيادة الموحدية.
عندئذ اشتد الهياج في بلنسية وهتف الشعب برياسة الرئيس زيان وزير السيد أبو زيد وكبير بطانته، ولم يجد السيد أبو زيد سبيلًا لمدافعة هذه الثورة الجارفة فغادر بلنسية في أهله وأمواله ومعه كاتبه ابن الأبّار، وكان ذلك في سنة 626هـ= 1229م، ولما لم يجد السيد أبو زيد سبيلًا إلى استرداد سلطانه عول على أنْ يلتجئ إلى خايمي الأول ملك أرجوان للاستعانة به ضد أعدائه، ومن ثم عقد معه معاهدة صداقة.
لم يكن ابن الأبّار راضيًا عن هذه المعاهدة، فما لبث أن غادر مخدومه السيد أبا زيد وعاد مسرعًا على بلنسية، وهناك التحق بأمير بلنسية الجديد، أبي جميل زيان، وتولى منصب كتابته، ولقد كان ابن الأبّار بعيد النظر حينما ترك مخدومه الضال، فلم يقبل لحظة فيما يعتبره خيانة لوطنه وأمته ودينه.
كانت هذه التجربة الأليمة أول عهد ابن الأبّار بالمغامرات الدبلوماسية، بيد أنَّ القدر كان يدخره لمهام دبلوماسية أخرى، أشد إيلامًا للنفس، وأبعث إلى الحسرة والأسى، حيث كان صرح الأندلس القديم الشامخ قد أخذ في تلك الآونة العصيبة يهتز ويتداعى، ولم تستطع الزعامات المحلية المسلمة والفتنة تمزق أوصال الأندلس أنْ تصمد في وجه إسبانيا النصرانية.
أخذ ملك أرجوان من جانبه أن يمهد للاستيلاء على بلنسية، وذلك بانتزاع حصونها شيئًا فشيئًا، حتى استطاع تمزيق قوى البلنسيين في معركة أنيشة الخاسمة سنة 634هـ= 1237م، ومن ثم حاصر المدينة، وفي تلك الآونة العصيبة اتجهت أنظار الأمير إلى توجيه وزيره وكاتبه ابن الأبار إلى أبو زكريا بن السيد أبي محمد عبد الواحد الموحدي أمير مملكة بني حفص في إفريقية (تونس)، وذلك من أجل الغوث والاستنجاد به.
بادر الأمير زكريا بتجهيز أسطول شحنه بالسلاح والأقوات والأموال لإنجاد الثغر الأندلسي، وبالفعل أقلعت السفن من تونس إلى بلنسية ومعها ابن الأبار ورفاقه، ولكن لم توفق هذه السفن إلى تأدية مهمتها، حيث طاردتها السفن الأرجونية، فاضطرت أنْ تفرغ شحنتها وتعود إلى تونس، ولكن استطاع ابن الأبّار ورفاقه أن يعودوا إلى مدينتهم بلنسية.
هنا شدد الأرجونيون الحصار على المدينة، وبالرغم مما بذله الأمير زيان وقواته من ضروب الإقدام والبسالة فقد كان من الواضح أنَّه لا مفر من التسليم، وانتهى الأمر بين ملك أراجون والأمير زيان بالاتفاق على أن تسلم المدينة صلحًا، وقد كان ابن الأبار هو الذي تولى صياغة وثيقة الصلح المحزنة، وذلك في يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر صفر سنة 636هـ، الموافق 29 سبتمبر سنة 1238م.
هكذا كان الدور المؤلم الذي لعبه ابن الأبّار في حوادث سقوط بلنسية، وقد هزت هذه الحادثة مشاعره إلى الأعماق، فلم يطق أنْ يبقى في الوطن المنكوب، فغادر أميره وغادر الأندلس كلها، وعبر البحر إلى تونس فوصلها في أواخر سنة 636هـ.
وفاة ابن الأبّار
بعد أنْ وصل ابن الأبّار تونس عاش حينًا في كنف الأمير أبي زكريا يتولى له أمر الكتابة، ولم توفي الأمير أبو زكريا وخلفه ولده المستنصر بالله، التحق ابن الأبّار ببطانته العلمية، ولكنه لم يكن قريرًا مطمئنًا إلى هذه الحياة لما كان يتخللها من غضب السلطان بسبب دسائس خصومه أحيانًا، وبسبب تصرفاته الشخصية النزقة أحيانًا أخرى، وفي النهاية استطاع خصومه أن يوقعوا به، ورفعت إلى السلطان بعض أقوال وأبيات نسبت إلى ابن الأبّار طعنًا في السلطان، وتعريضًا به، فأمر السلطان بجلده ثم بقتله، وأُخذت كتبه وأُحرقت في موضع قتله، ووقع مصير ابن الأبّار على هذا النحو المؤسي في الحادي والعشرين من شهر المحرم سنة 658هـ، الموافق الثامن من يناير سنة 1260م.
واُختتمت بذلك حياة أعظم شخصية في الأدب الأندلسي.
تراث ابن الأبّار الأدبي والتاريخي
ابن الأبّار شخصية متعددة النواحي، فهو فقيه راسخ، وشاعر مبدع مبكي، وكاتب بلغ ذروة البيان، ثم هو بعد ذلك مؤرخ ومحقق، وقد ترك ابن الأبّار تراثًا حافلًا من المنثور والمنظوم، والمصنفات التاريخية الجليلة، وأقوى وأروع مصدر عن ابن الأبار من نثر ونظم هو ما كتبه أيام المحنة، وأيام انهيار الأندلس، وأيام سقوط وطنه بلنسية من القصائد والرسائل، وأما تراثه التاريخي هو من أنفس تاريخ الأندلس وتاريخ رجالاتها، ولاسيما في القرن السادس الهجري وأوائل القرن السابع، وقد كان ابن الأبّار وزيرًا وكاتبًا، ومعاصرًا لكثير من الحوادث التي يرويها.
وأهم مصنفاته التاريخية هو كتاب " التكملة لكتاب الصلة" في تراجم علماء الأندلس، وكتاب " الحلة السيراء" في تاريخ أمراء المغرب، و " المعجم" في التراجم، و" إعتاب الكتاب" في أخبار المنشئين، و "إيماء البرق في أدباء الشرق"، و "الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة"، و" مظاهرة المسعى الجميل ومحاذرة المرعى الوبيل"، و"درر السمط في أخبار السبط" وغير ذلك من المصنفات، وقد خلدت آثار ابن الأبار صورًا حية من محنة الأندلس وعوامل انهيارها، لم يستطع كاتب آخر من معاصريه أنْ يقدم شيئًا يدانيه[1].
[1] محمد عبد الله عنان: تراجم إسلامية شرقية وإندلسية، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1390هـ= 1970م، ص342- 353.
قصة الإسلام