ذكر سيبويه -ت:180- أن الشعر "وضع للغناء والترنم"، ثم أقبل يذكر مذاهب العرب في إنشاده، فكانت ثلاثة: الترنم، والنثر، والتوسُّط، وهذا الثالث إما على جهة "الغلو"، أو على جهة "التعدي"، وعليهما يدل اسماهما! فأما في الترنم فيتغنون، ويحرصون على بعض ما يختص به الشعر مما يعينهم على الترنم. وأما في النثر فلا يميزون الشعر بشيء. وأما في التوسط فلا يتغنون بالشعر، ولكنهم يحرصون على بعض ما لا يفعلون في النثر.
ثم جاء ابن جني -ت: 392- فنبه على مذهبين للعرب في إنشاد الشعر: مذهب الجفاة الفصحاء، ومذهب المتغنين المترنمين؛ فأما هؤلاء فيقيمون العروض ولا يبالون بما يفعلون باللغة في سبيل ذلك، وأما أولئك فيقيمون اللغة ولا يبالون بما يفعلون بالعروض في سبيل ذلك!
نعم؛ وقد تحصَّل لي من استبطان ذلك كله، أن الشعر العربي أنشد على أربعة أوجه:
الأول الإنشاد الخالي: الذي لا يقيم فيه المؤدي لا العروض ولا اللغة؛ فهو كأنه متعلم يريد فك الخط!
الثاني الإنشاد اللغوي: الذي يقيم فيه المؤدي اللغة دون العروض؛ فهو كأنه ممثل يريد توصيل المعنى!
الثالث الإنشاد العروضي: الذي يقيم فيه المؤدي العروض دون اللغة؛ فهو كأنه موسيقي يريد توصيل اللحن!
الرابع الإنشاد الممتزج: الذي يقيم فيه المؤدي العروض واللغة جميعا معا؛ فهو كأنه مغنٍّ يريد توصيل المعنى واللحن!
روى الأصفهاني -ت: 356-: ”قالَ الزُّبَيْرُ: حَدَّثَتْني ظَبْيَةُ، قالَتْ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدَبٍ، يُنْشِدُ زَوْجي قَوْلَ قَيْسِ يْنِ ذَريحٍ:
إِذا ذُكِرَتْ لُبْنى تَأَوَّهَ وَاشْتَكى تَأَوُّهَ مَحْمومٍ عَلَيْهِ الْبَلابِلُ
يَبيتُ وَيُضْحي تَحْتَ ظِلِّ مَنيَّةٍ وَفي الْحُبِّ شُـغْلٌ لِلْمُحبّينَ شاغِلُ
فَصاحَ زَوْجي: أَوَّهْ! واحَرَباهْ! واسَلَباهْ!
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلى ابْنِ جُنْدَبٍ، فَقالَ: وَيْلَكَ! أَتُنْشِدُ هذا كَذا!
قالَ: فَكَيْفَ أُنْشِدُه؟
قالَ: لِمَ لا تَتَأَوَّهُ كَما يَتَأَوَّهُ، وَتَشْتَكي كَما يَشْتَكي”؛
فلم أرتب في أن بين إنشاد ابن جندب وما أراده زوج ظبية، مثل ما بين المذاهب الثلاثة الأولى والرابع؛ فإنه دونها أمثل ما يكون الإنشاد وأصدقه!