لقاء الملك الإنجليزي ريتشارد الثاني مع متمردي ثورة الفلاحين عام 1381 (وكالات)
أثارت وفاة الأميركي جورج فلويد على يد ضباط شرطة في مدينة مينيابوليس الأميركية احتجاجات واسعة وردود فعل عنيفة من الشرطة، في زمن جائحة أدت إلى فقدان ملايين الوظائف وآلاف الأرواح، وسلطت الضوء على قرون من التمييز العنصري وعدم المساواة الاقتصادية.
وتقول سوزان واد أستاذة تاريخ العصور الوسطى الأوروبية بكلية كين الأميركية؛ إن وباء الطاعون أسهم في تثوير الفلاحين الإنجليز عام 1381. وترى الأكاديمية المقيمة بأميركا أوجه تشابه مثيرة للاهتمام بين ما يجري حاليا من احتجاجات في أميركا إثر قضية فلويد، وانتفاضات القرن 14 في بريطانيا، التي وصفت إحداها بأنها أول ثورة شعبية كبرى في تاريخ إنجلترا.
وإذ تبدو إنجلترا في العصور الوسطى بعيدة جدًا عن أميركا الحديثة، كما أنه لا يعد العمال الأميركيون في الزمن الراهن مرتبطين بأصحاب العمل عبر نظم إقطاعية، مثل التي أجبرت الفلاحين على العمل لصالح ملاك أراضيهم قديما؛ ومع ذلك، كانت ثورة الفلاحين القديمة رد فعل نتج عن قرون من الاضطهاد تجاه أدنى طبقات المجتمع.
وكما هي الحال اليوم، كانت أقلية من النخبة (تقدر بنسبة 1% من السكان) تمتلك غالبية الثروة؛ وعندما بدأ المرض القاتل الانتشار تحملت الفئات الأكثر ضعفا تكلفة الركود والصعوبات الاقتصادية، في حين رفض قادة البلاد الاستماع لمطالبهم، وهو ما جعل الفلاحين يقررون المواجهة.
تحسين الأجور
كانت حصيلة القتلى من الطاعون في القرن 14 كارثية، ويقدر أن ما بين ثلث ونصف سكان أوروبا ماتوا خلال تفشي المرض الأول، وأدت الخسائر الفادحة في الأرواح إلى نقص هائل في العمالة، وتصف السجلات القديمة حقول إنجلترا الخاوية والقرى الخالية والماشية من دون أصحابها وهي تجوب ريفًا فارغًا.
فهم العمال الناجون الإنجليز قيمتهم المكتشفة حديثا، وبدؤوا الضغط من أجل أجور أعلى، حتى أن بعض الفلاحين بدؤوا البحث عن عمل أكثر ربحًا من خلال ترك الإيجار الإقطاعي، مما يعني أن الفلاحين شعروا بحرية ترك العمل لدى ملاك الأراضي.
وبدل الاستجابة للمطالب، قام الملك إدوارد الثالث بالعكس تمامًا؛ ففي عام 1349 قام بتجميد الأجور عند مستويات ما قبل الطاعون، وسجن أي مزارع أو عامل ترك عمله من دون سبب، وضمنت هذه القوانين أن نخبة الملاك وأصحاب الأراضي سيحتفظون بثرواتهم.
وسن إدوارد الثالث قوانين متتالية تهدف إلى ضمان ألا يزيد العمال قدرتهم على الكسب، في وقت كانت إنجلترا تتغلب على تفشي الوباء اللاحق، ومع استمرار نقص العمالة بدأ العمال يطالبون بالتغيير، حسب مقال سوزان واد لموقع "كونفيرذيشن".
رجل الدين الإنجليزي جون بول يشجع المتمردين ويظهر وات تيلور باللون الأحمر في الصورة (المكتبة البريطانية)
طفح الكيل
كان السبب الأبرز لثورة الفلاحين هو الإعلان عن "ضريبة رؤوس" ثالثة خلال 15 عامًا، ولكونها ضريبة ثابتة تفرض على كل فرد، فإنها تؤثر على الفقراء أكثر من الأغنياء. ومثل الاحتجاجات التي اندلعت عقب وفاة فلويد؛ كانت ثورة الفلاحين بالفعل نتيجة التوقعات المتقطعة والتوترات الطبقية التي كانت تغلي منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حسب الكاتبة.
وصلت الأمور أخيرا إلى ذروتها في يونيو/حزيران 1381، عندما اقتحم ثلاثون ألف عامل ريفي لندن مطالبين بلقاء الملك، حسب تقديرات مؤرخي القرون الوسطى، وقاد الفوج جندي سابق وفلاح متمرد يدعى وات تايلر، وواعظ متشدد متجول يدعى جون بول.
كانت الحشود متعاطفة مع حركة دينية مسيحية بروتستانتية تدعى "لولارد" ظهرت منتصف القرن 14 وحتى حقبة الإصلاح الإنجليزي في القرن 16، وهي طائفة مسيحية اعتبرتها روما هرطقة، وآمن المنتمون إلى "لولارد" بكشف الأسرار الدينية، وإمكانية ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الإنجليزية من اللاتينية؛ الأمر الذي سيجعل النص المقدس متاحا للجميع على قدم المساواة، مما يقلل الدور التفسيري لرجال الدين.
أراد بول أن يأخذ الأمور إلى أبعد من ذلك، ويطبق أفكار الحركة الدينية على المجتمع الإنجليزي ككل. وباختصار، دعا بول إلى قلب النظام الطبقي بالكامل، ووعظ الحشود قائلا إنه بما أن البشرية كلها أبناء آدم وحواء فإن النبلاء لا يمكنهم إثبات أنهم يتمتعون بمكانة أعلى من الفلاحين الذين عملوا عندهم.
وبمساعدة عمال متعاطفين داخل لندن دخل الفلاحون المدينة، وهاجموا وأضرموا النار في قصر سافوي الشهير، الذي كان تابعا لدوق لانكاستر. بعد ذلك اقتحموا برج لندن، حيث قتلوا العديد من رجال الدين البارزين، بما في ذلك رئيس أساقفة كانتربري، واستمرت الثورة أقل من شهر، ووصفت بأنها أفضل تمرد موثق خلال العصور الوسطى.
خديعة الملك
لقمع العنف، التقى خليفة إدوارد الملك ريتشارد الثاني (14 عامًا) الفلاحين الغاضبين خارج لندن، وقدم لهم ميثاقا مختوما يعلن فيه أن جميع الرجال وورثتهم سيكونون "في حالة حرة"، مما يعني أن الروابط الإقطاعية التي وضعتهم في خدمة ملاك الأراضي ستلغى.
لوحة لمقتل وات تيلور ويظهر فيها الملك ريتشارد الثاني مرتين، مخاطبا الحشود يمينا ومراقبا ما يجري يسارا (ويكيبيديا)
وبينما كان المتمردون فرحين في البداية بهذا الميثاق، لم تنته الأمور بشكل جيد بالنسبة لهم؛ عندما التقت المجموعة ريتشارد في اليوم التالي، سواء عن طريق الخطأ أو النية المبيتة، قُتل وات تايلر على يد أحد رجال ريتشارد، واسمه جون ستانديش، وتفرق بقية الفلاحين أو فروا، حسب مؤرخي العصور الوسطى.
بالنسبة للسلطات، كانت هذه فرصة للانقضاض على الثورة، وأرسلوا قضاة إلى ريف كينت للعثور على أولئك الذين ثبتت عليهم تهمة قيادة الانتفاضة ومعاقبتهم وإعدامهم، وقبضوا على جون بول وسُجن، وفي 29 سبتمبر/أيلول 1381 أعلن ريتشارد الثاني والبرلمان أن الميثاق الذي يحرر الفلاحين من الإيجار الإقطاعي لاغ وباطل، وظلت فجوة الثروة شاسعة بين أدنى مستويات المجتمع وأعلاها.
حاضر أميركا
وعودة إلى الحاضر الأميركي، فرغم أنه من الواضح أن العمال الأميركيين من ذوي الأجور المتدنية لديهم حقوق وحريات يفتقر إليها الفلاحون في العصور الوسطى، فإن هؤلاء العمال يرتبطون بوظائفهم؛ لأنهم لا يستطيعون تحمل حتى خسارة قصيرة الأجل في دخلهم. ورغم فشل ثورة الفلاحين القديمة وتصفية قادتها، فقد وصفت بأنها بداية النهاية للعبودية في إنجلترا، وأصبحت ملهمة لكثيرين من المطالبين بإصلاح النظام الإقطاعي السائد في البلاد.
وتختم الكاتبة بالقول إن الفوارق الاقتصادية لرأسمالية القرن 21 -حيث يمتلك 1% من الناس أكثر من نصف ثروة العالم- أصبحت قريبة الشبه من تلك الموجودة في أوروبا في القرن 14، وعندما يصبح عدم المساواة في الدخل أمرا مزعجا للغاية، وعندما تستند هذه التفاوتات إلى القمع طويل الأجل، تصبح الاضطرابات التي نراها بالشوارع في عام 2020 أمرا لا مفر منه.