تشريح إيقاع الجدارية العروضي
3414 تفعيلة من الشعر الحر جداريةُ محمود درويش، في 1164 سطر، بمتوسط ثلاث تفعيلات تقريبا (2.93)، في السطر الواحد؛ وكأنه شطر البيت العمودي، الذي جعله أبو نصر الفارابي أقلَّ مقدار من الكلام الموزون "يصلح بيتا، ويصلح بعض بيت"؛ فبقي في الواعية الشعرية العربية، حتى شَرَقَتْ به جداريةُ محمود درويش، على بعد ما بين المشرقين!
توقعت أن تنفرد بتلك التفعيلات كلها تفعيلةُ بحر الكامل "مُتَفَاعِلُن"، التي افتتن بها طويلا محمود درويش معذورا بنجاحها المستمر، ولاسيما في الشعر الحر الذي سُمِّيَ حَمَلَتُهُ مرةً "شعراءَ المُتَفَاعِلُن"؛ فإذا هي على أربعة أقسام:
أولها لـ"مُتَفَاعِلُنْ" (تفعيلة بحر الكامل المتوقعة)، بنسبة 90.80%. وثانيها لـ"فَاعِلُنْ" (تفعيلة بحر المتدارك التي يمكن تخيل توليدها من "مُتَفَاعِلُنْ" بحذف السبب الثقيل "مُتَ"، من أولها)، بنسبة 4.65%. وثالثها لـ "فَعُولُنْ" (تفعيلة بحر المتقارب مقلوبة تفعيلة بحر المتدارك "عِلُنْ فَا")، بنسبة 4.01%. ورابعها لـ"فَاعِلَاتُنْ مُتَفْعِ لُنْ فَاعِلَاتُنْ" (شطر بيت بحر الخفيف الذي يمكن تخيل توليد تفعيلته الأولى بزيادة سبب خفيف على "فَاعِلُنْ"، ثم تنضاف إليها قرينتاها اعتراضا للإيقاع بشطر بحر الخفيف)، بنسبة 0.52%.
"هَذَا هُوَ اسْمُكَ
قَالَتِ امْرَأَةٌ وَغَابَتْ فِي الْمَمَرِّ اللَّوْلَبِيِّ
أَرَى السَّمَاءَ هُنَاكَ فِي مُتَنَاوَلِ الْأَيْدِي
وَيَحْمِلُنِي جَنَاحُ حَمَامَةٍ بَيْضَاءَ صَوْبَ
طُفُولَةٍ أُخْرَى وَلَمْ أَحْلُمْ بِأَنِّي
كُنْتُ أَحْلُمُ كُلُّ شَيْءٍ وَاقِعِيٌّ كُنْتُ
أَعْلَمُ أَنَّنِي أُلْقِي بِنَفْسِي جَانِبًا
وَأَطِيرُ سَوْفَ أَكُونُ مَا سَأَصِيرُ فِي
الْفَلَكِ الْأَخِيرِ وَكُلُّ شَيْءٍ أَبْيَضُ
الْبَحْرُ الْمُعَلَّقُ فَوْقَ سَقْفِ غَمَامَةٍ
بَيْضَاءَ وَاللَّاشَيْءُ أَبْيَضُ فِي
سَمَاءِ الْمُطْلَقِ الْبَيْضَاءِ كُنْتُ وَلَمْ
أَكُنْ فَأَنَا وَحِيدٌ فِي نَوَاحِي هَذِهِ
الْأَبَدِيَّةِ الْبَيْضَاءِ جِئْتُ قُبَيْلَ مِيعَادِي
فَلَمْ يَظْهَرْ مَلَاكٌ وَاحِدٌ لِيَقُولَ لِي
مَاذَا فَعَلْتَ هُنَاكَ فِي الدُّنْيَا
وَلَمْ أَسْمَعْ هُتَافَ الطِّيِّبِينَ وَلاَ
أَنِينَ الْخَاطِئِينَ أَنَا وَحِيدٌ فِي الْبَيَاضِ
أَنَا وَحِيدُ"!
لقد كانت "مُتَفَاعِلُنْ" نغمة أساس سيمفونية كتاب الموت، هذه التي مَوْسَقَ بها محمود درويش رحلته المتخيلة في أثناء جراحة قلبه الثانية الخطيرة، غيابا وحضورا، ونسيانا وذكرا، وسخطا ورضا، وخوفا وأمنا، ويأسا وأملا؛ فوَصَفَ، وأَنْسَنَ، وجَرَّدَ، وحَاوَرَ!
" تَقُولُ مُمَرِّضَتِي أَنْتَ أَحْسَنُ حَالًا
وَتَحْقُنُنِي بِالْمُخَدِّرِ كُنْ هَادِئًا
وَجَدِيرًا بِمَا سَوْفَ تَحْلُمُ
عَمَّا قَلِيلٍ
رَأَيْتُ طَبِيبِي الْفِرَنْسِيَّ
يَفْتَحُ زِنْزَانَتِي"!
"مَنْ أَنَا
أَنَشِيدُ الْأَنَاشِيدِ
أَمْ حِكْمَةُ الْجَامِعَةْ"!
"بَاطِلٌ بَاطِلُ الْأَبَاطِيلِ بَاطِلْ
كُلُّ شَيْءٍ عَلَى الْبَسِيطَةِ زَائِلْ"!
ولقد كانت ["فَعُولُنْ"، و"فَاعِلُنْ"، و"فَاعِلَاتُنْ مُتَفْعِ لُنْ فَاعِلَاتُنْ"]، هي النغمات المتفرعة عن نغمة الأساس، بحيث انحرفَ محمود درويش بـ"فَعُولُنْ"، إلى ما كان في إفاقته مِن حوار مَن حوله، وبـ"فَاعِلُنْ"، إلى ما كان في إفاقته من إنكاره لحاله، وبـ"فَاعِلَاتُنْ مُتَفْعِ لُنْ فَاعِلَاتُنْ"، إلى ما كاد يفضى به إليه من اليأس إنكارُه لحاله!
وكذلك توقعت أن تنطلق التفعيلات من أولاها إلى آخرتها انطلاقة واحدة لا تتلبَّث ولا تتعثَّر، حرصا على مثال القصيدة الحرة الذي تتمثله ونُصْبَ عينيها مثالُ المعزوفة السيمفونية المطلقة المتكاملة؛ فإذا هي مقسمة باعتبار صور التفعيلات القافوية، على 33 قسما بـ 90 فصلا، من حيث يجب وقف تلك الانطلاقة إذا اعترضتها هذه التفعيلة، كما سبق في تفعيلة مقطع الفصل الأول: "ضُ أَنَا وَحِيدُ=مُتَفَاعِلَاتُنْ"، التي لو اتصلتْ بتفعيلة مطلع الفصل الثاني "لَا شَيْءَ يُو=مُتْفَاعِلُنْ"، لانكسر الإيقاع، وتأذى السماع:
ستة أقسام منها ذوات "مُتَفَاعِلُنْ" وقافية الدالية المضمومة المردفة بياء المد أو واوه الموصولة بالواو (1-29، 43-45، 50-64)، واللامية المكسورة المردفة بياء المد الموصولة بالياء (46-49)، والمضمومة المؤسسة الموصولة بالواو (71)، والنونية الساكنة المردفة بالألف (88)، والساكنة المردفة بياء اللين (89)، واللامية المكسورة المجردة الموصولة بالياء (90). وستة عشر قسما منها ذوات "فَعُولُنْ" وقافية التائية المكسورة المؤسسة الموصولة بالياء (30)، والصادية المفتوحة المجردة الموصولة بالألف (31)، واليائية المفتوحة المؤسسة الموصولة بالهاء الساكنة (32)، والدالية المفتوحة المؤسسة الموصولة بالألف (33)، والتائية المكسورة المردفة بياء اللين الموصولة بالياء (34)، والرائية المفتوحة المجردة الموصولة بالهاء الساكنة (35-36)، والساكنة المجردة (37-38)، والميمية الساكنة المجردة (39)، والبائية الساكنة المجردة (40)، والنونية المكسورة المجردة الموصولة بالياء (41)، والفائية الساكنة المردفة بياء المد (42)، واليائية المفتوحة المردفة بياء اللين الموصولة بالهاء الساكنة (65-66)، والتائية المكسورة المجردة الموصولة بالياء (67)، والطائية الساكنة المجردة (68)، والنونية المكسورة المجردة الموصولة بالياء (69)، والغينية المفتوحة المجردة الموصولة بالهاء الساكنة (70). وستة أقسام منها ذوات "فَاعِلُنْ" وقافية العينية المفتوحة المؤسسة الموصولة بالهاء الساكنة (72)، والدالية المكسورة الموصولة بالياء (73، 75)، والنونية الساكنة المجردة (78)، والرائية المفتوحة المؤسسة الموصولة بالألف (78)، والبائية الساكنة المجردة (83)، والعينية المفتوحة المؤسسة الموصولة بالهاء الساكنة (84-85). وثلاثة أقسام منها ذوات "فَاعِلَاتُنْ مُتَفْعِ لُنْ فَاعِلَاتُنْ" وقافية اللامية الساكنة المؤسسة (76-77، 80-81، 86-87). وقسمان غير ذَوَيْ تفعيلة واضحة ولا قافية معتبرة (74، 82).
"يَا أَيُّهَا الزَّمَنُ الَّذِي لَمْ يَنْتَظِرْ
لَمْ يَنْتَظِرْ أَحَدًا تَأَخَّرَ عَنْ وِلَادَتِهِ
دَعِ الْمَاضِي جَدِيدًا فَهْوَ ذِكْرَاكَ
الْوَحِيدَةُ بَيْنَنَا أَيَّامَ كُنَّا أَصْدِقَاءَكَ
لَا ضَحَايَا مَرْكَبَاتِكَ وَاتْرُكِ الْمَاضِي
كَمَا هُوَ لَا يُقَادُ وَلَا يَقُودُ
وَرَأَيْتُ مَا يَتَذَكَّرُ الْمَوْتَى وَمَا يَنْسَوْنَ
هُمْ لَا يَكْبَرُونَ وَيَقْرَؤُونَ الْوَقْتَ فِي
سَاعَاتِ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
بِمَوْتِنَا أَبَدًا وَلَا بِحَيَاتِهِمْ لَا شَيْءَ
مِمَّا كُنْتُ أَوْ سَأَكُونُ تَنْحَلُّ الضَّمَائِرُ
كُلُّهَا هُوَ فِي أَنَا فِي أَنْتَ
لَا كُلٌّ وَلَا جُزْءٌ وَلَا حَيٌّ يَقُولُ
لِمَيِّتٍ كُنِّي
وَتَنْحَلُّ الْعَنَاصِرُ وَالْمَشَاعِرُ لَا
أَرَى جَسَدِي هُنَاكَ وَلَا أُحِسُّ
بِعُنْفُوَانِ الْمَوْتِ أَوْ بِحَيَاتِيَ الْأُولَى
كَأَنِّي لَسْتُ مِنِّي مَنْ أَنَا أَأَنَا
الْفَقِيدُ أَمِ الْوَلِيدُ
اَلْوَقْتُ صِفْرٌ لَمْ أُفَكِّرْ بِالْوِلَادَةِ
حِينَ طَارَ الْمَوْتُ بِي نَحْوَ السَّدِيمِ
فَلَمْ أَكُنْ حَيًّا وَلَا مَيْتًا
وَلَا عَدَمٌ هُنَاكَ وَلَا وُجُودُ"!
لقد انقسمت هذه القصيدة الطويلة على أقسام كثيرة، والأقسام على فصول أكثر منها، ائتلف بعضها، واختلف بعضها؛ فماج بحر هذه السيمفونية أمواجًا، استقل كلُّ موج منها بدُفَّاع من هدير الرؤى، ووجب على مؤديها أن يراعيها، فيقف بين مقاطع سوابقها ومطالع لواحقها، ويغير من أداءاتها. فإن كان في هذا الوقف ما يعوق القصيدة الحرة عن أن تناصي السيمفونية، فإن الوصل على طريقة الوقف (الانتقال بالموقوف عليه، إلى ما بعده سريعا)، لكفيل بإزالة هذا العائق!