تأملْ قولَه تعالى: «وما أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ ولا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [الحشر/6]
وركِّز النظرَ إلى وَظائف الروابِطِ ودلالاتها: الواوُ وما وعلى [أربع مرات] ومِن [مَرّتانِ] ولا ولكنّ. وإلى الضمائر: الهاء في رَسوله، وهم في منهم، والضمير في أوجفتُم وعليه، والضمير في "يُسلطُ" وفي رُسُله، وفي "يَشاء". انظُر إلى الروابط الحرفية والضميرية والمَعنويةِ التي تُقدَّرُ ولا تَظهرُ: كيفَ تشدّ بناءَ الكلامِ وتربطُ أركانَه وأجزاءَه وتَجعلُه نصاً متماسكاً متجانساً. حَسَنَ تَوزيع العَناصِرِ مُتقنَ الصُّنع .
الفَيء في الحُروب ما يَظفَرُ به الجيْشُ من مَتاعِ عَدوّهِم وهو أعمُّ من الغنيمة؛ ويكون الفيءُ بقتال وبدون قتال، وأما الغنيمة فهي ما أخذ بقتال. وضَمير [منهم] عائد إلى أهل الكتابِ من بَني النضير الذين ذُكِروا في أوّل سورة الحَشر.
وقوله: [فَما أوْجَفتُم عليه] خَبرٌ عَن ما المَوصولةِ، واقترنَ الخبرُ بالفاءِ لأنّ اسمَ الموصول تَضَمَّنَ مثلَ الشرطِ مَعنى السّبَبيّة. وفيه مَعْنى الامتنان الصريحِ على المسلمين بأن الله ساق لهم أموال بني النضير دونَ قتال، مثلَا ذُكرَ في سورة الأحزاب: [وكَفى الله المؤمنين القتالَ]، وفي هذا الخَبَر كنايةٌ بأنًّهم لم يُوجِفوا عليه، فليسَ لهم سَببُ حقٍّ فيه ولا يَسأَلون قسمَتَه لأنّه لم يُنَلْ بقتالِهم، بل هو عَطيّةٌ من الله خالصة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
والإِيجاف: نوعٌ من رَكضِ الخَيل للإِغارةِ. والرِّكَابُ اسم جمع للإِبل التي تُرْكبُ. والمعنى ما أغرتم عليه بخيل ولا إبل. فكَنَّى عن الخَيْل برَكضِها وإيجافها. وحرفُ الجَرّ في قوله تعالى: [فَما أوجفتُم عليه للتعليل وليس للتعديَة، وقَد يَكونُ متعلقاً بمحذوف هو مصدر الفعلِ أوجفتم، والتقديرُ: أوجفتُم إيجافاً لأجله. وحرفُ الجر مِن في قوله: [مِن خَيلٍ] زائدةٌ للتوكيد داخلةٌ وفي المَجرورِ مَعنى المَفعوليّةِ. ويُمكنأن تَكونَ مِنْ للتبيين.
[ولكنَّ الله يُسلطُ رُسُلَه على من يَشاء] استدراك على النفي الذي في [ فَما أوْجَفتُم عليه] لدَفع الوَهم وإثباتِ أنه لا حقّ فيه لأحد. والمرادُ أن الله سَلَّطَ عليهم رَسولَه صلى الله عليه وسلم فهو أحقُّ به. وهذا التركيبُ يفيدُ قَصْراً معنوياً كأنه قيلَ: فما سلطكم الله عليهم ولكن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي العبارَة إيجازٌ بالحذفِ؛ والتقديرُ: ولكنَّ الله سَلّط عليهم رسولَه صلى الله عليه وسلم، والله يُسلِّط رُسلَه على مَن يَشاءُ، والعبارَةُ المذكورَةُ ذيلٌ على المَحذوفةِ والّةٌ عليها.