حمدًا لله وشكرًا له على آلائه ونعمه...
ومهما تكن الظروف التي تحيط بأمتنا منذ قرون، سواء كانت خارجية أو داخلية، فإنَّ النظر الفاحص يدرك أنَّ مسيرة حضارتنا تتقدم يومًا بعد يوم.
لقد كلَّتْ عقول أعدائنا من التخطيط المدّمر لنا، وكلَّتْ سواعدهم من ضربنا بأحدث الأسلحة، ولقد نجحوا في إيلامنا والنيل منا، لكن كثيرًا ما رجع كيدهم عليهم وبالًا بعد أنْ أنفقوا الأموال والأوقات، وصدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول:}وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ{ (فاطر: 43).
وقد أنفقوا من دمائهم ومن أموالهم الكثير، وصبرنا وصمدنا، وأصبح جليًا أنَّ القوى المستكبرة في الأرض فشلت في الصد عن سبيل الله، وحق عليها غضب الله في الدنيا والآخرة، وكذلك غضب الإنسانية واستنكارها، وصدق فيها قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ{ (الأنفال:36).
ومع هذه الظروف الخارجية التي لم تعد تعدم أنْ تجد عونًا قويًا من قوى الارتداد الداخلي الممثلة في اللادينيين الذين ترتبط قواعد مفاهيمهم الفكرية بقلاع الفكر الاستشراقي والتغريبي... مع هذه الظروف فإن مسيرة تقدمنا في ازدهار كمّي وكيفي، ولعل أعدائنا يدركون هذا أكثر منا، فعقيدة التوحيد الصحيحة تكتسح العقائد الوثنية التي تعدد الآلهة والأقانيم، وشريعة التسامح الصالحة لكل زمان ومكان، ثبت جدارتها وحدها بصياغة حياة الناس، لأنها وحدها تهدي للتي هي أقوم، ولأنها ليست اختراع عقول متحيّزة عنصرية، أو أخرى محدودة بالزمان والتراب والخلفية الثقافية، بل هي صادرة من الله خالق الإنسان والكون الذي يعلم الظاهر والباطن من الإنسان: }أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{(الملك: 14)، وبالتالي يشرع له التشريع المنسجم مع فطرته.
وها هي البشرية بعيدًا عن شريعة الله تصل إلى نهاية الطريق المسدود، حين تعقد مؤتمرات مشبوهة تحت اسم الحريات الشخصية تنتهي فيها إلى إقرار زواج الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى (الزواج المثلي)، وهو المستوى الذي لم تصل إلى دركه الحيوانات، إنه... مستوى "أسفل سافلين".
فلا طريق أمام الإنسانية، ولا أمام المسلمين من باب أولى إلا طريق الإسلام، وها هي مسيرة التاريخ وقوانينه التي يجب أنْ يقرأها المسلمون كما ينبغي أنْ تقرأ تُثبتُ ذلك...
ولقد أصبح واجبًا علينا أنْ نعيد قراءة كتاب ربنا، وسُنَّة نبيه عليه الصلاة والسلام، وحركة تاريخنا الإسلامي، بل وحركة التاريخ الإنساني في ضوء علم السنن الربانية، وتفسير التاريخ تفسيرًا إسلاميًا منطلقًا من حديث القرآن المستفيض عن قصص الأنبياء، وقصص الأمم السابقة، بدءًا من موقف إبليس من آدم، وتفضيل الله لآدم عليه السلام.. لأنه أعطاه العلم والإرادة:}وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا{ (البقرة: 31)، ووصولًا إلى ما نفقه من سيرة محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم التي قدَّمتْ لنا دروسًا في التعامل مع كل ظروف الحياة، بمثالية وواقعية في سياق واحد.
لقد عمد كثيرون إلى تقديم رؤى منحرفة في تفسير تاريخنا الإسلامي، ووقفوا في رؤية حركة تاريخنا عند مستوى الحياة السياسية والعسكرية، وأغفلوا عن عمد أو جهل شتى مستويات الحياة التي صنعتها الحياة الاجتماعية والاقتصادية والإسلامية، أو بإيجاز حركة صناعة الحضارة بواسطة الأمة التي اصطفاها الله وجعلها خير أمة.
ومن هذه الرؤى المتكاملة سوف ندرك عظمة هذه الحضارة، ومستويات عطائها العقلي والقيمي والإنساني عبر عشرة قرون أو أكثر، ومن ثم نتقدم خطوة في إزالة الأتربة والمظالم التي وقعت على هذا التاريخ، ومع ذلك لا يجوز لنا أن ننسى أنَّه تاريخ بشر يعتريهم الضعف والنقص، ويبذلون المحاولات للوصول إلى الحق فيصيبون ويخطئون، لكنهم يرتبطون بثوابت، ويؤمنون بأن تاريخهم العظيم ليس تاريخ ملائكة أو معصومين، وإنما هو تاريخ أفضل البشر[1].
[1] دكتور عبد الحليم عويس: دراسات في تاريخ الحياة الإسلامية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1430هـ= 2009م، ص9- 11.